نحسد موريتانيا على تصنيفها الاولى عربياً في تقرير حرية الصحافة الصادر سنوياً عن "مراسلون بلا حدود".
فالدولة الافريقية التي تخلصت من الاستعمار ونظام الرق قبل عقود قليلة حلت في المرتبة 33 عالمياً بعد النمسا مباشرة قافزة 53 نقطة ومتجاوزة الامبراطورية التي تتخذ من تمثال الحرية ايقونة وشعاراً. ويبدو ان نواكشوط قررت أخيراً التطلع الى أمام والتمتع برحابة الديموقراطية بدل ان تتلهى بجروح الذاكرة وشعبويات الوطنية وتبتلى بالعسكريتاريا و"العروبة الخالدة" التي "لا يتصدَّع بعثُها".
مؤسف انه مع "عيد شهداء الصحافة" الذي نحتفل به بمرارة كل سادس من أيار، ننتبه كما لو كنا غافلين الى اننا حصدنا المرتبة 133 هذا العام بتراجع 21 نقطة، ولا عجب لو اكتشفنا في الـ2025 أننا في "آخر الخيل" ما دمنا نعيش أخطار الحروب المفتوحة وانحلال مؤسسات الدولة.
ربما كان تاريخ 6 أيار 1916 هو اليوم المجيد الأثمن في تاريخ لبنان. الصحافيون قادوا قافلة الشهداء تحت عنوان التحرر من ربقة المحتل العثماني والتأسيس للاستقلال. لم يفكروا في حينه ان "الشهادة" في لبنان المستقل ستأخذ معاني ومدلولات دينية وحزبية وتصير صنواً للانقسام والحروب الأهلية وتلك التي تخاض بالوكالة عن محاور اقليمية. لم يحلم الذين علقوا على الأعواد في ساحة الشهداء لا بغلبة مذهبية ولا بمكاسب فئوية. كان همهم لبنان ويقظة العرب من الذل والسُبات وأن يكسروا إرادة المستعمر رافضين أن تنكسر الأقلام.
لا أدري كيف نجرؤ على الاحتفال بتلك الذكرى المهيبة فيما نمشي القهقرى في معايير الصحافة الحديثة بالتوازي مع انزلاق البلاد الى هوة سحيقة تجعل من الرأي الحر وقاحة مفرطة وشجاعة غير ضرورية ومخاطرة بمكسب العيش ومقامرة بالحياة الشخصية. لكن التجارب علمتنا ان مسار التاريخ مخيب أحيانا كثيرة للمراهنين على إبحاره باستمرار بلا عثرات ونكسات ونكبات. هكذا يترحم اللبنانيون على "الماضي الجميل" في مجمل مناحي الحياة، ليس لأنه كان رائعاً وفريداً، بل لرداءة المعيوش وتراجع المواصفات وقابلية شعبنا الاستثنائية لـ"دعوشة" العقائد والتكنولوجيا والسياسة وقيم التقدم المتعارف عليها في الديموقراطيات.
تقاس الحريات الصحافية بخصوصيات القمع وفق الدولة ونظامها وممارساتها. لكن الأخطر ليس مقص الرقيب ولا رهبته المستدخلة في عقول الكتاب، بل الخشية من دفع الدم مقابل الرأي.
العالم مليء بنظم القمع والاستبداد التي تضطهد المعارضين وتقوم بالتطهير العرقي وحجب الرأي الآخر. وإذا كان نظام فلاديمير بوتين يقود النهج الدولتي في تصفية الصحافيين المعارضين، فإن اسرائيل حظيت بقصب السبق بقتلها اكثر من 130 صحافياً في حرب غزة كان للبنان حصة مؤلمة منهم. أما عصابات المخدرات في اميركا الجنوبية فعدوها الأول الصحافيون الأحرار وليست أجهزة الدولة الحاضرة لقبول المغريات.
يخطىء تقرير "مراسلون بلا حدود" لو حصر تراجع لبنان في الترتيب العالمي بفعل القتل الاسرائيلي لمصور رويترز عصام العبدالله وزميلين في "الميادين" أو باستدعاءات المحكمة العسكرية المشينة لصحافيين جاهروا بآراء يمكن إخضاعها لأحكام القانون العادي. كان أحرى بمنظمة دولية محترمة ان تعتبر العلة الأساس هي في عيش صحافيي لبنان في نظام اللادولة حيث تسود اخلاق الميليشيات والمافيا.
الدولة لا تخيف الصحافيين لأن مرجعها مهما تعسفت هو القانون، ولأن تراكم نضالات اللبنانيين ضد انتهاك الحريات الاعلامية يشكل مناعة في المجتمع والقضاء رغم التبَّع وضعاف النفوس. ما قد يقلق الصحافيين ويحد من قدرتهم على التعبير الحر هو "كفاءة" الميليشيات في ممارسة شتى انواع الانتقام والترهيب ونفوذها الذي يتيح الافلات من العقاب.
الأشد من الترهيب هو الإغواء الذي كرسته مافيات صارت لها صحف ناطقة باسمها ونقابات تسبِّح بحمدها وبرامج في التلفزيونات. ناهيك عن قدرة الطوائف والسلطات الدينية والقوى الحزبية الفاشية والطائفية على رسم خطوط حمر ومحرمات.
تستطيع الصحافة مقارعة الدولة. تخسر أحياناً وتربح معظم الأحيان... في لبنان، اللادولة مصدر التهديد ليس للصحافة فحسب، بل للوجود والكيان.
التعليقات