الصديق البريطاني الذي يشعر بالإحباط جرّاء مواقف حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض من الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، قال الأربعاء الماضي، "أشعر أنني أعيش في دولة من العالم الثالث".

استنكرت التعليق بادئ الأمر. اعتبرته انهزامياً. لكن في غضون ساعات كان الدليل إلى صحته يرتسم أمام عيني على الشاشة الصغيرة.

خرج الوزراء واحداً تلو آخر ومعهم المليونيرة أكشاتا مورتي زوجة زعيمهم التي لا تتمتع بأي صفة رسمية أو حزبية، إلى المنصة أمام جمهور صغير من الناشطين الموالين لإطلاق الحملة الانتخابية للحزب الحاكم. فقد أعلن ريشي سوناك رئيس الوزراء (44 عاماً) من أمام 10 داونينغ ستريت في وقت سابق من ظهر أمس الماطر على نحو مفاجئ أن الانتخابات العامة المقبلة ستكون في 4 تموز (يوليو) المقبل. ثم أطل جيمس كليفرلي، وزير الداخلية بوجهه البشوش الذي لا يعتبره كثيرون وأنا منهم أنه "فوتوجينك"، ليرتجل كلمة طنانة رنانة في مديح الزعيم.

كان القيادي المخضرم ديفيد كاميرون وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق لفترة تعادل ثلاثة أمثال ولاية سوناك، يقف في الصف الثاني متجهم الوجه بعينين شبه مغمضتين، ما يوحي أنه قد سئم المشهد برمته، وبجواره جيرمي هانت، وزير الصحة والخارجية الأسبق الذي تسلم ملف المالية قبل نحو سنتين لإنقاذ البلاد من "الكارثة" التي حلت بالاقتصاد في ظل ليز تراس رئيسة الوزراء السابقة. إلا أن كليفرلي نسب كل "النجاحات" الاقتصادية المزعومة لسوناك، من دون أن يشير ولو بكلمة لهانت، وكأن المسكين كان يحرس باب وزارة المالية ولا يديرها!

ولطالما التهبت الأكف بالتصفيق مع كل عبارة ثناء فضفاضة جاد بها الوزير الذي ربما أدهش الكثيرين حينما أشاد بقوة رئيس الحكومة وشجاعته. غير أن كفّ كاميرون بالكاد لامست كفه الأخرى! لعله كان مشغولاً بتذكر مشاهد الحفاوة بـ"الزعيم" في دول بعيدة يصفق وزراؤها ونوابها كلما سنحت الفرصة لقائدهم المفدى وصانع ازدهارهم المزعوم ويهتفون بحياته.

وفي غمرة الاحتفال بإنجازات المحافظين التي يتحفظ عليها العديد من البريطانيين، دخل سوناك كالفارس الآتي على حصان أبيض. كان من دون سترة، ما جعله يبرز بقوة بقميصه الأبيض بين وزرائه المتدثرين بستراتهم الرسمية الداكنة اللون. وسرعان ما ابتعد كليفرلي الذي يكاد رأسه ينطح السحاب عن زعيمه الذي لا يباريه في طول القامة.

كانت التكهنات المستمرة والإيحاءات من جانب الحكومة تؤكد أن الناخبين لن يتوجهوا إلى مراكز الاقتراع قبل تشرين الأول (أكتوبر) المقبل أو تشرين الثاني (نوفمبر). بيد أن رئيس الوزراء قرر أن يفاجئ باختياره موعدها القريب. وتجاهل بطبيعة الحال، في كلمته الموجزة، ذكر الهزائم المدوية في الانتخابات المحلية أوائل شهر أيار (مايو) الجاري والهجمات التي استمر بعض نواب حزبه في شنها عليه، فيما انشق في الأسابيع الأخيرة اثنان أحدهما وزير دولة، ليلتحقا بحزب العمال.

وكادت الأقاويل عن محاولة إطاحته، وأحياناً الدعوات الصريحة لذلك، وترشيح متشددين مثل الوزيرة كيمي بادينوك أو زميلتها الأقل تطرفاً بيني مورداونت للحلول محله لا تتوقف. وربما حفزته هذه الأحداث على الإسراع بالتوجه إلى الشعب للخلاص من حالة الموت البطيء التي دخلت فيها ولايته بُعيد تسلمه الحكم في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. ومنذ تلك الفترة، بقيت الفجوة في استطلاعات الرأي بين المحافظين والعمال أكثر من 20 نقطة.

ولعل رئيس الوزراء "الصبور" بامتياز أدرك أن التعافي الاقتصادي الذي بدأت بوادره تظهر لن يتعزز في الأشهر المقبلة. خففت أزمة تكلفة المعيشة قبضتها التي التفت حول حياة البريطانيين، لا سيما أصحاب الدخل المحدود في أعقاب الجائحة والغزو الروسي لأوكرانيا. وتقترب حالياً نسبة التضخم من 2 في المئة، وباتت أقل من نصفها في بداية 2023، كما وعد سوناك حين أعلن "التعهدات الخمسة" التي التزم تنفيذها. ولم يحالفه النجاح مع التعهدات الباقية. فنمو الاقتصاد الموعود لا يزال متلكئاً، بينما ارتفع الدين العام الذي كان يفترض به أن ينخفض، وزادت قائمة الانتظار لمرضى "خدمة الصحة الوطنية" طولاً بدل أن تتقلص على يديه. أما الزوارق الصغيرة التي تجيء عبر القنال الإنكليزي وأقسم على إيقافها، فقد زاد عددها عن العام الماضي والذي سبقه، ويكاد عدد المهاجرين الذين أتوا على متنها منذ أول العام وحتى 18 أيار (مايو) الجاري يصل إلى عشرة آلاف شخص.

أصاب الزعيم حين قال في بداية الحملة "لا أستطيع أن أدّعي ولن أدعي أننا نجحنا في كل شيء"، وإن كان منتقدوه في الحزب الحاكم وخارجه ينفون نجاحه في أي شيء، سوى التردد والضعف وتقديم التنازل تلو الآخر. وهذا تقييم قاس يتجاهل السياق الذي وصل فيه إلى 10 داونينغ ستريت بعد 12 سنة من حكم المحافظين تعاقب على إدارة دفته أربعة رؤساء وزراء ترك اثنان منهم، بوريس جونسون وتراس، جراحاً لم وقد لا تندمل في اقتصاد البلاد ومكانتها وسمعتها العالمية.

سوناك هو أول سياسي ملون من أصل هندي يمسك بزمام السلطة في لندن، كما أنه رئيس الوزراء الذي شهد بداية عهد الملك تشارلز الثالث. ويُعتقد أن المليونير المرشح للخروج من الحكم في 4 تموز (يوليو) المقبل، سيكون آخر زعيم لحزب المحافظين الحالي الذي عرفته بريطانيا على مدى قرنين من الزمن. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يزيد تشرذمه واندفاع فصائله المختلفة إلى اليمين.

ملّ البريطانيون الحزب المتهم بالتحايل لإخراج البلاد من الاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن يحل محلهم حزب العمال بزعامة كير ستارمر بعد نحو خمسة أسابيع، وستكون معالجة التداعيات السلبية للبريكست في طليعة أهدافه. لكنه لن يشفي علل بريطانيا قبل أن يعثر على الدواء الناجع لأمراضه المستعصية هو التي ستكون موضوعنا المقبل.