هناك أكثر من عشرين سببا منطقيا، وعلميا، وجيها، تثبت - بالتأكيد - أن «قبول» إسرائيل، كما هي عليه الآن، وعدم الضغط لإرغامها على إيفاء «متطلبات» السلام، الذي يحقق ولو الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للفلسطينيين، يعني: تطبيعا مجانيا غبيا ومقيتا، والقبول بجريمة كبرى، ترتكب ضد شعب بريء، وأمة بأكملها. وهذا التطبيع المذل والمهين، له تداعيات ونتائج سلبية مروعة، ومرعبة بالنسبة للعرب، وللمطبعين منهم بخاصة. وسبق أن تطرقنا لهذه الأسباب. ولا بأس في التذكير هنا بأهمها: فبالإضافة إلى ما في ذلك من خذلان للشعب الفلسطيني، وعدم إنصافه، وتكريس الظلم الفادح الذي أنزل به، وبالتالي، المساهمة في تفاقم هذه المأساة العربية والإنسانية الكبرى، وإضافة لكون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة يوقف الأحلام الصهيونية المسعورة، ويقف حجر عثرة في طريق السياسات التوسعية الإسرائيلية، باعتبار أن إسرائيل تستهدف كل المنطقة، فإن السبيل الوحيد لاكتفاء شر إسرائيل هذه هو زوالها (المحتمل) أو احتواؤها داخل حدود 1967.

ولعل أبرز الأسباب المدعاة من قبل الصهيونية، والتي تحاول بها «تبرير» قيام ونمو وتوسع إسرائيل، هي كون «شعب» إسرائيل لا صلة تذكر لغالبيته بالمنطقة، ناهيك عن فلسطين، ولا حجة منطقية... تعطي هذا «الشعب» الحق في تكوين دولة، واغتصابها من سكانها. حتى لو افترضنا أن بعض «أجداد» هؤلاء عاشوا هناك، قبل آلاف السنين، فإن ذلك لا يبرر غزو الأحفاد. إن صلة يهود «السفرديم»، وهم يهود الشرق، بفلسطين، لا تبرر إطلاقا اغتصابهم لفلسطين. أما صلة اليهود «الاشكناز»، وهم يهود الغرب، والذين يشكلون غالبية اليهود، بالعالم، فتكاد أن تكون معدومة، ناهيك أن تكون لهم صلة تذكر بأرض فلسطين. وما جاء في بعض الكتب السماوية عن هذه الصلة إنما خص به يهود ذلك الزمان فقط. ولنرجع إلى بعض مؤلفات المؤرخين الموضوعيين، لنعي هذه الحقائق جيدا، ولا نركن للروايات الصهيونية الكاذبة في هذا الشأن.

ومؤخرا، نشر مركز أبحاث الجينات بجامعة «جون هوبكنز» الأمريكية الشهيرة، بحثا علميا، نشرت أهم استنتاجاته، على نطاق عالمي واسع، ومفادها أن بحوث DNA، أثبتت أن 97.5% من اليهود الذين يعيشون في إسرائيل الآن، ليس لهم أصول عبرية إطلاقا، وغير ساميين...؟! وأيضا ليس لهم أي صلة تاريخية في أرض فلسطين. بينما 80% من الفلسطينيين، الذين يعيشون الآن بـ «إسرائيل»، أثبت فحصهم DNA أنهم هم الساميون الأصليون...؟! ألا يكفي استنتاج هذا البحث، وحده، لنسف «الأساس الأكبر»، الذي تبرر الصهيونية على أساسه قيام ونمو وتوسع وعربدة كيانها الغاصب...؟!

****

والحجة الأسخف التي دائما ما يرددها الصهاينة، تبريرا لعدوانهم على فلسطين، والأمة العربية، هي أن آباءهم تعرضوا لمحرقة نازية ألمانية، أودت بحياة ملايين منهم. ولو افترضنا صحة هذا الادعاء، ما ذنب الفلسطيني، الذين غزو أرضه، ونهبوا أملاكه، وقتلوا أطفاله، ونساءه، وشبابه، في مجازر بشرية، وحروب إبادة جماعية تشن عليه من الجيش الصهيوني، من وقت لآخر، وعلى مرأى ومسمع كل العالم. لماذا لا يطلب من ألمانيا جزء من أراضيها، ليقيموا عليها دولتهم؟! إنها القوة الغاشمة، والرغبة الاستعمارية، والضعف العربي، الذي مكن لهؤلاء الغزاة الاستمرار، حتى الآن، في ارتكاب هذا الجرم الأكبر، وبحججهم العنكبوتية الواهية.

إن هذا الكيان الذي أقاموه لم يبن على أي أساس صحيح وصلب، مهما حاولوا إبقاءه حيا، متربصا. ويمكن أن نصفه بالصفات الرئيسة التي يستحقها فعلا، فهو: غاز، سارق، محتل، معتد، ظالم، متآمر، توسعي، ينوي الشر لمن حوله، إرهابي، بربري، عنصري، مرتكب للمجازر وحروب الإبادة الجماعية... إلخ. ويطول بنا الحديث إن حاولنا هنا ذكر ما يثبت كل صفة من هذه الصفات الفظيعة. ويكفي النظر إلى ما تفعله هذه الإسرائيل، بفلسطين، والمنطقة، للتأكد.

****

ولنختتم هذا المقال بذكر تصريح لأحد كبار المسؤولين الإسرائيليين، أدلى به في فبراير 2024، واصفاً قسوة تعامل الصهاينة مع الفلسطينيين، أهل البلاد الأصليين. ففي لقاء تلفزيوني، أجرته إحدى القنوات الإسرائيلية مع «عامي أيالون»، رئيس الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك) السابق، سأله المذيع (مستطلعاً رأيه في رد فعل الفلسطينيين): لو كنت فلسطينيا، تعيش في الضفة الغربية، أو غزة، ماذا كنت ستفعل تجاه إسرائيل؟! رد أيالون مؤكداً: كنت سأقاتل إسرائيل، لتحقيق حريتي، وأعمل أي شيء لاستعادتها. ثم سأله المذيع: كيف ترى كلاً من «بن غفير» (وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الحالي) و«سموتريتش» (وزير المالية). أجاب أيالون: أرى أنهما إرهابيان، ومتدينان متطرفان. ولعل ما ورد في هذا اللقاء يعكس الصورة الحقيقية لحياة المواطن الفلسطيني، في بلده، على يد هؤلاء الغزاة المجرمين.

****

إن قيام ونمو وتوسع واستمرار الكيان الصهيوني يعتبر من «عجائب» السياسة، وأفعال الاستعمار الخبيث، نكاية بمن يعتبرهم أعداءه. والغريب أن بقاءه ما زال مستمراً... ربما لأنه يقع في «شرق العجائب الأوسط». ولو كان في منطقة أخرى، لربما أطيح به في عيده الفضي.