قبل أكثر من 15 سنة قادني لقاء دولي إلى جوهانسبورغ، كانت البلاد متحمسة لاستقبال نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي نُظّمت للمرّة الأولى في القارة الأفريقية، بفضل الحضور الرمزي والمعنوي للزعيم الراحل نيلسون مانديلا، وقد أظهرت كواليس تنظيم تلك التظاهرة في جنوب أفريقيا، أن الأمر كان مجاملة لزعيم تاريخي وفرصة لإظهار بلد خرج للتو من محنة التمييز العنصري المقيت الذي طُبّق بصرامة شديدة منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي. كانت البلاد تريد أن تقدّم نفسها بصورة جديدة للعالم، صورة الدولة التي طوت صفحة "الأبارتايد" ومثلت تجربة خاصة في تجارب الانتقال الديموقراطي في العالم. يجدر التذكير بأن مفهوم الانتقال الديموقراطي أو التحول الديموقراطي في العلوم السياسية، يعبّر عن وضعية الدول التي تعرف تحولاً في أنظمة الحكم من أنظمة سلطوية مغلقة إلى أنظمة منفتحة على الممارسات الديموقراطية. هذا الانتقال يتجلّى في تغيير البنية القانونية والمؤسساتية للأنظمة القائمة، واتخاذ التدابير والإجراءات التي تسمح بمشاركة واسعة للمواطنين في العمل السياسي وتمتعهم بكامل حقوقهم المدنية والسياسية وتكريس مبادئ المساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، بخاصة في التجارب التي عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. هناك موجات متعددة للانتقال الديموقراطي، لكن تبقى فترة منتصف السبعينات من القرن الماضي، واحدة من الفترات التي شهدت تجارب مهمّة في كل من اليونان وإسبانيا والبرتغال، كما سيشهد العالم عقب نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين موجة أخرى من تجارب الانتقال، شملت هذه المرّة دول أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، كما عرفت العديد من الدول الأفريقية تجارب مماثلة لكن بنتائج متواضعة. يقول غابرييل آلموند وبنغهام باول إن "المبادرة من أجل التغيير السياسي يمكن أن تنبع من ثلاثة مصادر، من النظام السياسي نفسه، أي من النخبة الحاكمة ومن الجماعات الاجتماعية في البيئة الداخلية ومن النظم السياسية في البيئة الدولية، وعادةً ما تتفاعل هذه العناصر الثلاثة مع بعضها بعضاً".

تطبيق هذه الخلاصة على حالة جنوب أفريقيا يُظهر لنا كيف كان للرئيس دوكليرك من الأقلية البيضاء، دور مؤثر وحاسم في إعلان القطيعة مع نظام التمييز العنصري، في إطار عملية تفاوضية آمن بها مانديلا وقيادات "حزب المؤتمر" الوطني الأفريقي، فلم يتحقق الانتقال الديموقراطي نتيجة ثورة أو انقلاب، بل في إطار سلمي تفاوضي بُني على مقاربة خاصة للحقيقة والمصالحة وتشجيع الضحايا على الصفح، حيث لم تشهد البلاد محاكمات ذات أثر كبير، وهو ما يبقي موضوع الحقيقة والمساءلة مطروحاً من قبل الكثير من المنظمات الحقوقية في البلاد، لكن بصفة عامة كان دوكليرك ومانديلا اللذان تشاركا معاً جائزة "نوبل" للسلام "متواطئين" في تغليب منطق طي صفحة الماضي، إنما مع الحفاظ على مقدّرات البلاد الاقتصادية، وبلا شك فإن تراجع البيض عن مواقع السلطة السياسية كان في إطار ضمانات دولية تكفل استمرار حضورهم الاقتصادي، وقد تكرّس خروجهم من السلطة السياسية منذ انتخابات العام 1994 إذ هيمن "حزب المؤتمر" الوطني الأفريقي طيلة ثلاثين عاماً. في التاسع والعشرين من شهر أيار (مايو) الماضي، شهدت جنوب أفريقيا تحوّلاً تاريخياً، إذ اكتملت دورة "حزب المؤتمر" الوطني الأفريقي في السلطة، وذلك بخسارته للمرّة الأولى أغلبيته البرلمانية المطلقة في انتخابات مشحونة شهدت أكبر نسبة مشاركة منذ انتخابات 1994، وهو ما يعني أن الانتخابات كانت أقرب إلى استفتاء على سياسات الحزب طيلة ثلاثة عقود، إذ شكّلت مواضيع مثل البطالة والجريمة والكهرباء ومحاربة الفساد، مواضيع رئيسية في الحملات الانتخابية، هذه الخسارة لم تكن في الواقع مفاجئة، ذلك أن "حزب المؤتمر" سجّل تراجعاً مماثلاً في الانتخابات المحلية سنة 2021. تراجع "حزب المؤتمر" من نسبة تأييد تتجاوز 57.5% في انتخابات 2019 إلى نسبة لا تتجاوز 40% في الانتخابات الأخيرة، بينما حصل "التحالف الديموقراطي"، وهو أكبر أحزاب المعارضة ويمثل البيض، على المرتبة الثانية بنسبة تقارب 22%، بينما حلّ ثالثاً بنسبة 14.60% حزب "رمح الأمة" وهو حزب جديد يقوده الرئيس السابق جاكوب زوما بعد انشقاقه عن "حزب المؤتمر"، وحلّ رابعاً حزب "المقاتلون من أجل الحرّية الاقتصادية" ذو التوجه اليساري المتطرّف بقيادة جولياس ماليما، وحصل على 9.48%. تعقيدات المشهد السياسي في جنوب أفريقيا لا تقف عند نتائج الانتخابات، بل في ما تمثله تلك النتائج من انعكاسات على المستقبل، بخاصة ضرورة قيام تحالف لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة، وهي تجربة غير مسبوقة هناك، بل تكاد تكون مستحيلة، لأن الأطراف الرئيسية تفصل بينها تناقضات جوهرية. وإلى جانب ذلك تظهر التجربة الديموقراطية في جنوب أفريقيا، أنها تدفع ثمن خطيئة البدايات، ذلك أن كل ما عرفته البلاد هو تنازل الأقلية البيضاء التي لا تتجاوز نسبتها 9% من عدد السكان الذي يتجاوز 60 مليون نسمة، عن مظاهر السلطة السياسية بينما بقيت تتحكم في الاقتصاد والمناصب العليا، ما يجعلها الحاكم الفعلي، وهو ما تضمنته تقارير محلية ودولية اتفقت جميعها على غياب المساواة الاقتصادية والاجتماعية، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول مستقبل الاستقرار السياسي، بخاصة أن ثلاثة عقود لم تنجح في رفع الطابع العرقي عن تدبير الحياة السياسية، ذلك أن الأحزاب تتشكّل واقعياً على أساس عنصري، بل إن تجربة الحزب الجديد "رمح الأمة" قد تُدخل البلاد في مسار أخطر، وهو تشكيل الأحزاب على أساس قبلي... فهل تستطيع جنوب أفريقيا تجاوز وضعها الحالي أم أنها ستكون مفتوحة على أخطار عدم الاستقرار بما له من انعكاسات إقليمية خطيرة؟