منذ الأزل اختار الله سبحانه وتعالى لبيته المقدس الذي ببكة مباركاً من يقوم على خدمته وخدمة ضيوفه الوافدين إليه، بدعوة إبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
إبراهيم نادى للحج من بطحاء مكة، والله سبحانه وتعالى تكفل بإيصال صوته إلى مشارق الأرض ومغاربها. شهدت مكة المكرمة وحرمها الآمن عناية مؤسس هذا الكيان - طيب الله ثراه - وأبنائه الكرام من بعده بتعظيم شعائر الله والعناية بها والسهر على راحة ضيوفه، وتقديم كل ما يمكن تقديمه لهم من رفادة وسقيا وطعام على أكمل ما يكون دون مَنٍّ أو أذى، في خطوات وأعمال لم يسبقهم إليها أحد على مدى التاريخ وتعاقب الأمم. فعملوا كل ما في وسعهم من أجل توسعة المكان وزيادة نسبته الاستيعابية وتقديم كل الخدمات اللوجستية للحجاج، مع طرح مبادرات تساعد على الاستفادة من هذه المشاريع القائمة على خدمة هذه الشعيرة.
من ضمن هذه المبادرات (لا حج بدون تصريح) لحج آمن وميسر.
مليارات أُنفقت لتهيئة المكان بجبله وواديه ومشعره لإداء المناسك بيسر وسهولة، ولعل شعار (لا حج بدون تصريح) له أثر كبير في إنجاح الحج والاستفادة من هذه المشاريع وبث ثقافة الاستطاعة لحل مشكلة الحج العشوائي والافتراش، فالحج مرّة واحدة في العمر مقرونة بالاستطاعة، ولو كان للإنسان أقارب محتاجون، فالإنفاق عليهم أفضل من الحج.
فالحج ليس رحلة سياحية كما يتشدق البعض في المجالس بأنه يحج كل عام دون تصريح يتحايل على الأنظمة مخالفاً الأوامر، فحِجته غير مقبولة؛ لأنه مخالف لولي الأمر، وشرعاً لا تجوز مخالفة ولي الأمر. يقول الحق: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج». ويقول عليه الصلاة والسلام: «من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، فجعل الوعد بالمغفرة والقبول لمن لم يرفث ولم يكذب ويغش ويتحايل ويعصي ولي الأمر.
والحج المبرور لا ترتكب فيه المعاصي وهو أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، فلا بد أن يتم حسب شروطه وأركانه. والحج فيه دلالة على إظهار التذلل والخضوع لله عز وجل وتعظيم للبيت وهو من شعائر الله.
الحج واجب عيني على كل من استجمع شرائط الوجوب، وهو مرة في العمر حتى لا يضيق على الآخرين فعلها.
خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام فسكت النبي حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال عليه الصلاة والسلام، لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»، ويعلق ابن قدامة على هذا الحديث أن الواجب في الحج هو مرة واحدة فهو عبادة لا تتأدى إلا بكلفة عظيمة ومشقة شديدة بخلاف سائر العبادات، فلو وجب الحج في كل عام لأدى إلى الحرج وهو منهى عنه شرعاً.
وقد اختلف العلماء في وجوبه على الفور أو التراخي، فعند الإمام أحمد أن من وجب عليه الحج فأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي إنه يجب الحج وجوباً لا وسعاً فهو على التراخي وليس على الفور، وحجته بأن الحج فرض بعد الهجرة وأن النبي حج في السنة العاشرة من الهجرة فدل على جواز تأخير الحج، واحتجوا كذلك بأنه إذا أخره من سنة إلى سنة أو أكثر ثم قام بالحج فإنه يعتبر مؤدياً للحج وليس قاضياً له بإجماع الفقهاء. واحتج الحنفية بأن الأمر بالحج يحتمل الفور ويحتمل التراخي، والحمل على الفور أحوط ومن شروط الحج الاستطاعة، وقد فسرها رسول الله بالزاد والراحلة ولكن هل تثبت الاستطاعة ببذل الزاد والراحلة؟ اتفق الحنابلة والحنفية بأنه لا تثبت استطاعة الحج ببذل الزاد والراحلة سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً، وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالاً؛ لعدم تحقق شرط الاستطاعة فيه علاوة على أن البذل لا يخلو من الِمنة والمسلم لا يلزمه قبول ما فيه المنة ولو في فعل القربات.
الاستطاعة تعدت مفهوم الراحلة والزاد، فضيق جغرافية المكان رغم الجهود المبذولة للتوسعة، وتكدس الحجاج، وزيادة أعداد المسلمين وصعوبة الحجوزات وإجراءات الحج، كل هذا يدخل ضمن الاستطاعة في الوقت الحاضر، فالحج مثلاً ليس بواجب على من يتسول ويسأل الناس، بل يجب زجره ومنعه من هذه العادة القبيحة؛ لأن سؤال الناس في الأصل لا يجوز في الشريعة الإسلامية ولا يجوز إلا للضرورة، فكيف يمكن جعل المعتاد على التسول مالكاً للزاد وبالتالي مستطيعاً للحج وبالتالي يجب عليه الحج؟
إن الشرع أوجب الحج بشرط الاستطاعة ولا تأتي الاستطاعة بسؤال الناس الممنوع شرعاً إلا للضرورة وليس من معاني الضرورة الذهاب إلى الحج عن طريق سؤال الناس واسترحامهم، فالحج لمن استطاع إليه سبيلاً.
سبق أن دعا مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل المقتدرين عدم توزيع الطعام والشراب والفواكه على المفترشين فهو أحد أسباب الافتراش وما يسببه من ازدحام وتراكم للأوساخ والقاذورات بما فيها قضاء الحاجة في صورة تشوه الحج وتقضي على الجهود الجبارة لخدمة حجاج بيت الله الحرام. ولعلم هؤلاء المحسنين أن الإحسان ليس له وقت محدد، بل هو طول العام ويصح في كل مكان وزمان.
التعليقات