رغم الحشود المليونية التي تشهدها بصورة سنوية، ورغم تزايد التحديات الصحية التي يمر بها العالم أجمع وقسوة الطقس وارتفاع درجات الحرارة، إلا أن كل ذلك لم يمنع القطاعات المختصة في المملكة من تنظيم موسم الحج وإخراجه بصورة متميزة تعكس قدرات الإنسان السعودي على تذليل الصعاب وتطويع المستحيل وكتابة صفحات خالدة من الإنجازات تضاف إلى سجلها الحافل الذي عرفت به طوال تاريخها. ويعود السر في ذلك – بعد توفيق الله تعالى – إلى التنظيم العلمي الدقيق الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويضع لها ما تستحقه من طرق التعامل المناسبة والخطط البديلة، إضافة إلى المتابعة اللصيقة على مدار الساعة من المسؤولين على أعلى المستويات، مع الاستعانة بأحدث مخرجات التقنية، وتسخير كافة المقدرات والأدوات الكفيلة بتحقيق النجاح. من أكبر التحديات التي تواجه تنظيم الفعاليات الضخمة التي تستقطب أعدادا كبيرة من البشر تبرز قضية إدارة الحشود، وإذا أخذنا الحج مثالا فنجد أن ملايين الحجاج، ومن بينهم نسبة كبيرة من النساء وكبار السن والمرضى يتحركون في بقعة جغرافية صغيرة وفي أوقات معينة نحو مناطق محددة وهو ما يشكّل صعوبة بالغة. ويسمى التحكم في حركة هؤلاء وسكونهم بإدارة الحشود. هنا يكمن منبع العبقرية السعودية والقدرة على التميز، فالمملكة أثبتت طوال تاريخها قدرتها على الإجادة وحرصها على ضمن سلامة هذه الكتل البشرية وتلبية كافة احتياجاتها وتوفير وسائل النقل الكافية لها وضمان استتباب الأمن والأمان والرعاية الصحية والضيافة الكريمة والاستقرار. ويتم ذلك بتوفير محطات أمنية لتفويج الحجاج، تكون مدعومة بأفراد وضباط أمن مؤهلين لتمكين ضيوف الرحمن من أداء فريضتهم على أكمل وجه. ولا يخفى علينا جميعا أن بلادنا بحمدالله أصبحت تمتلك رصيدا ضخما من الخبرة والمعرفة في هذا المجال وتستند على تجربة رائدة في التعامل مع الحشود، فهي البلد الوحيد في العالم الذي تجتمع فيه سنوياً هذه الأعداد الضخمة من الحجاج من ودول عدةٍ وثقافاتٍ متباينة ولغات مختلفة، ورغم ذلك تنجح المملكة بدرجة امتياز في ضمان سلامة هذه الأعداد الضخمة حتى لحظة رجوعها إلى بلادها، وهو ما دفع العديد من دول العالم ومنظماته الدولية لطلب الاطلاع على هذه التجربة، والاستفادة منها. وبطبيعة الحال فإن النجاح في تنظيم مثل الفعالية ليس بالأمر السهل ولا يمكن أن يتحقق بضربة حظ أو خبط عشواء، بل يحتاج إلى تخطيط وتنظيم يستمر طوال العام ويبدأ منذ انتهاء موسم الحج مباشرة ويستمر طوال العام حيث يتم رصد الإيجابيات لتعزيزها والسلبيات – إن وجدت – لتجاوزها، مع مواصلة تدريب العنصر البشري الذي هو أساس تحقيق كافة النجاحات وتزويده بأحدث الأجهزة والأدوات التي تعينه على إنجاز المهام الموكل بها. وقبل كل ذلك فإن إيمان القيادة السعودية بالدور المقدس الهام الملقى على عاتقها والذي شرفها به الله سبحانه وتعالى عن سائر دول العالم، فهو يمثّل مصدر إلهام مستمر، وقوة محركة دافعة تمنح جميع العاملين في هذا الميدان الشريف طاقة هائلة وتدفعهم لبذل كل ما يستطيعون من جهد وقوة. لذلك فإنني أتفق تماما مع من يقولون إن هناك دولة قائمة عملياً وفعلياً بكل أجهزتها في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة لخدمة ضيوف الرحمن، ليس من خلال الموظفين في هذه الجهات أو رؤساء إداراتها فقط، بل بوجود وزرائها ورؤساء أجهزتها ومؤسساتها في قلب الحدث، بإشراف مباشر من خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، حفظهما الله. وللحقيقة فإن الجهود الصادقة التي تبذلها الجهات المختصة السعودية في موسم الحج الأعظم أصبحت سمة ملازمة لهذه البلاد المباركة وتنعكس عليها إيجابا وتسهم في تقديم صورة حقيقية عنها من واقع التعامل الإنساني الراقي والأسلوب المتحضر الذي يكشف بجلاء طبيعة الإنسان السعودي، ومقدار الخير الذي يحمله قادة هذه البلاد الذين يحرصون على أن لا تقتصر فرصة أداء شعيرة الحج على الميسورين فقط. وفي هذا الإطار يبرز برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة، والذي يتيح لآلاف الأشخاص أن يؤدوا فريضة الحج، حيث يتمتعون بالرعاية والاهتمام، ويتم توفير كافة أنواع التسهيلات التي يحتاجونها، مع تنظيم برنامج حافل لهم يتعرفون فيه على المقدسات الإسلامية، وتقدم لهم الهدايا التذكارية التي تجعل أداء الشعيرة ذكرى عطرة تلازمهم طيلة حياتهم. كما يولي البرنامج اهتماما متصاعدا لاستضافة فئات أخرى من عامة المسلمين يتم اختيارهم بناء على عوامل عديدة، منها احتياجهم لأداء الفريضة، إضافة إلى جوانب إنسانية أخرى، فمن أبرز الذين تتم استضافتهم سنويا ذوي الشهداء الفلسطينيين، الذين فقدوا أبناءهم وإخوانهم وأزواجهم على أيدي جنود الاحتلال الفلسطيني، فهؤلاء يمثل أداءهم فريضة الحج فرصة لمواساتهم ومساعدتهم كي يتغلبوا على أحزانهم ويستأنفوا حياتهم الطبيعية من جديد. وكما أن المملكة تحرص على تكامل منظومة الخدمات لضيوف الرحمن، وتطوير وتحديث كافة المرافق، ويشهد كل موسم إضافة جديدة، فإن المملكة تتمسك أيضا بإبعاد هذا الموسم الروحاني الفريد عن أي أغراض دنيوية وترفض بشدة تسييس هذه الشعيرة التي جعلها الله سبحانه وتعالى ركنا من أركان الإسلام. فالمملكة تنطلق في إشرافها على كافة ما يتعلق بأداء هذه الشعيرة العظيمة من مبدأ نبيل هو تشرفها بخدمة ضيوف الرحمن، بغض النظر عن اللون أو العرق أو الوطن، لذلك لم يكن مستغربا أن تتبوأ هذه المرتبة الرفيعة في نفوس المسلمين في كافة أنحاء العالم الذين ينظرون إليها على أنها مملكة الإنسانية ومنبع النور الذي شمل العالم كله.