لزمن طويل، شكّلت المفاهيم السياسية مثل الدولة والنظام والشعب والأمة...، أدوات أساسية ومركزية في تحليل الواقع الاجتماعي، غير أن بروز الثورة الصناعية وصعود القيم الرأسمالية وتحرّرها من الإقطاع والسلطة السياسية التي تشكّلت في ظلها بدعم من الكنيسة، جعلا منها كما يقول إيل ديو - ساسيلو "قاعدةً" جديدة للتنظيم الاجتماعي، ما نتج منه تغيير البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية، فتحت المجال لمصطلحات ومقولات جديدة لتحليل الواقع الاجتماعي، مثل الطبقات الاجتماعية والثروة والصراع الطبقي، والبورجوازية والبروليتاريا، والنقابات والإضرابات، والتفاوتات وإعادة التوزيع.

الجديد اليوم هو أن هذه المفاهيم نفسها، على الأقل منذ حوالى أربعة عقود، لم تعد تملك القدرة على تفكيك الواقع الذي تعيشه الإنسانية، في ظل هذا الفراغ المفاهيمي والعجز عن الإحاطة بالتعقيدات المتسارعة التي تحيط بنا، إذ برزت قضايا الثقافة والنزوعات الإتنية والعرقية والهويات المغلقة أو القاتلة بتعبير أمين معلوف، حيث أصبحت هي من يملأ الساحة بشكل متزامن بين العالم الغربي، الذي طالما نُعت بالعالم الحرّ والديموقراطي، من خلال بروز الجماعات اليمينية المتطرّفة والتيارات الشعبوية يميناً ويساراً، أو في باقي بقاع العالم التي تعيش وعاشت لعقود، على وقع الصراعات الدينية والمذهبية والإتنية والقبلية، ومنها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي برزت فيها تيارات الإسلام السياسي بجانب التيارات التي رفعت شعارات الخصوصيات اللغوية والثقافية والمناطقية والطائفية. كل هذه التعبيرات تمثل مرحلة انتقال من زمن ما بعد السياسي والاقتصادي، إلى مرحلة جديدة غير واضحة المعالم، لكنها بلا شك تنطوي على مخاطر كبيرة.

في الولايات المتحدة الأميركية، التي تمثّل نموذجاً للعالم الحرّ، خصوصاً بعد الأربعاء الأسود الذي شهد اقتحام مقرّ الكونغرس الأميركي، بدا أن هناك شكلاً من أشكال التحالف أو التوظيف المتبادل، بين تيار شعبوي صاعد على يمين الحزب الجمهوري الذي يمثل دونالد ترامب علامته البارزة، وبين تيارات يمينية متطرّفة لها جذور طويلة في المجتمع الأميركي منذ حركة الحقوق المدنية بين عامي 1954 و1968، إذ إن أبرز حركات اليمين المتطرّف التي تحالفت مع ترامب، ليست في النهاية سوى امتداد للحركات المتطرّفة التي ناهضت حقوق الأميركيين من أصول إفريقية والملونين، ودافعت عن ذلك بسرديات عنصرية تعتقد بتفوق الجنس الأبيض، وهي ذات السرديات التي يُعاد إنتاجها اليوم داخل أميركا وخارجها.

يأتي الظهور الجديد لهذه الحركات في أعقاب الزلزال الذي خلّفته الأزمة الاقتصادية والمالية لسنة 2008، وفي ظل عجز منظومة الحكم في الولايات المتحدة على صيانة "الحلم الأميركي" بعد أن سيطرت الرأسمالية المتوحشة وتصاعدت الفوارق في المجتمع، ما جعل ملايين الأميركيين على هامش الدورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت الخطابات اليمينية العنصرية والدينية المتطرّفة، ملاذاً لكثيرين لم يكن ينقصهم سوى شخصيات/أيقونات للبروز إلى الواجهة، والتعبير عن رفض مؤسسة الحكم "الإستابلشْمِنت" والأوليغارشية السياسية والاقتصادية الحاكمة في واشنطن، وقد أفرز ذلك مزيجاً من الساخطين/الضحايا يضمّ السود واللاتينيين والمهاجرين بصفة عامة.

ما حدث في الولايات المتحدة مع ظاهرة ترامب أوقع كثيرين في الإلتباس، خصوصاً لجهة المهتمين بصعود التيارات الشعبوية في العالم وخطر ذلك على الديموقراطية التمثيلية، ما يجب الإنتباه إليه هو أن ما يحدث أمامنا منذ سنوات هو تحالف بين طرفين يجب التمييز بينهما، فمن جهة نجد الشعبوية ممثلة في ترامب، ومن جهة أخرى نجد الجماعات اليمينية تقوم ضرورة هذا التمييز، عندما نعلم أن الشعبوية في الجوهر هي نمط من السياسات الأخلاقية. فالتمييز بين النخبة والشعب هو أولاً وأخيراً أخلاقي (أي النقاء مقابل الفساد)، فالشعبوية تنطوي على نظرة مانوية للعالم، تقسّم الفضاء الاجتماعي إلى معسكرين متعارضين: "الشعب" الأخلاقي ومؤسسة الحكم الفاسدة، كما تقول ناديا أوربيناتي، إذ لا يقوم التمييز على جانب ظرفي يرتبط بالموقف من السلطة، أو اجتماعي ثقافي يقوم على الفوارق الإتنية أو الدينية، أو اجتماعي اقتصادي يقوم على الفوارق الطبقية، كما يؤكّد كل من کاس مودیه وکریستوبال روفيرا كالتواسير. فالهدف النهائي للشعبويين واليمين المتطرّف مختلف ومتمايز، وأي خلط أو اعتقاد بوجود نوع من التطابق الكامل بينهما، إنما يساهم في تضليل التحليل الذي يسعى إلى فهم ما يجري، سواءً في أميركا أو أوروبا.

بالتأكيد، ليست أميركا فقط هي التي تواجه تراجع الديموقراطية وتصاعد العداء لها بشعارات ومبررات مختلفة، بل إن ذلك يمثل موجة عالمية متصاعدة منذ انهيار جدار برلين، كما أن ترامب ليس سبباً في ما تعرفه أميركا منذ سنوات، بل هو نتيجة لمسار طويل من التراجعات التي كانت موضوع كتابات وازنة، منها كتاب ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبالت الذي يحمل عنوان "كيف تموت الديموقراطيات"، اللذان أكّدا فيه أن التاريخ أثبت في معظم الحالات "أن الديموقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد"، إذ إنها "تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها"، وإن أرض الديموقراطية الخصبة تخضع للتجريف مدة طويلة.

الأحداث الجارية اليوم توضح حجم التفاؤل والتشاؤم، معززاً بآخر التقارير الدولية حول الديموقراطية في العالم، والتي تخلص إلى حقيقة تراجع قيمها، في مقابل بروز بعض مظاهرها مثل الانتخابات، على الرغــم مــن أن الانتخابــات غالباً ما تُستعمل وســيلة لإضفــاء الشرعية الداخليــة والخارجيــة، أو يقتصر دورها فحسب على تعزيـز الواجهـة الديموقراطيـة.

فهل يمكن توقّع تحوّل يصحح مسار انحدار الديموقراطية؟ أم أن القرن الحالي هو في الطريق إلى القطيعة معها أمام فراغ مهول يتعلق بالبديل الممكن مع تصاعد الشعبوية واليمين المتطرّف؟