تظهر نتائج الاختلاط والتداخل بين الأجيال عبر جامعات العالم وشاشاته وكأنّها تُنتج عالماً جديداً قوامه امتلاك الحرية والمسؤولية في العلاقات مع الآخر، وهو ما لم نعهده قبلاً في علاقاتنا الدولية. سقطت أحجار الفروق الصلبة عبر الانتساب العام إلى الهويات الإلكترونية العالمية والفضائية. أسوق هذا مؤشّراً للتمكّن من العلوم الدقيقة التي لم تكن ربّما ميسرة لأجيالنا ودولنا باعتبارها تهاب تاريخ الدول والمؤسسات العالمية بهوياتها الكونية وعظمتها التقنية الدقيقة وأسرارها وأسواقها، تحقيقاً للتمايز فوق كفتي ميزان العظمة الدولية الصدئ.

أستهلّ للتفكير والتعبير عن ظاهرة الخروج من سجون المفاهيم العالمية، فقد نجد أنفسنا دولاً ومسؤولين ومفكرين وشعوباً خارج أقفاص التواريخ والإمكانيات التقليدية المستهلكة التي لم تعد تسمح لنا بتحديد المستقبل لأوطاننا وشعوبنا عبر مساحات تضبط حدودها وحقوقها ومعاني حروبها ونزاعاتها الأصيلة والمستوردة.

الأجيال تنخرط مشغولةً بالذكاء الاصطناعي تفتتن بحرية الفضاء؛ فتسابق الفئران في انزلاقاتها لتتحوّل السياسات وتتجدّد القرارات حرية عصرية في الحكم أفرزتها تقنيات الفضاء الهاطلة بالوظائف والطموحات والمخترعات والتحالفات الواسعة الدوائر والصراعات والأسرار ولو أن المخاطر بقيت تَصِمُ المستقبل بالغموض في الثنائيات.

صحيح أنّ العالمية الثانية تتقدم وتتسلق السلالم لعقلانية حكامها ولأن البشرية أساساً انخرطت حرّةً وسعيدة بشكل جذّاب إلى المنظومات المعلوماتية والاقتصادية المالية التي تحكم الأسواق العالمية لا أحادياً بل بأشكالٍ جذّابة لتقنيات الإعلام الحديثة والشبكات الإلكترونية المعروفة بال «World Wide Web».

يعني هذا مجدداً أنّ السياسات والعلاقات والقرارات والصراعات الدوليّة مسكونة بتطوير دولها لأنظمة الذكاء الاصطناعي وبرامج «لوغاريتمات» الكومبيوتر في صناعة القرارات ما يكشف ضحالة الثقافات الفجّة المطبوعة بالارتجاليّة. هكذا تبطل المفاجأة في حكم الدول إلى درجة التخيّل، لأنّ أقصى العلوم المعقّدة اليوم هي أبسطها عندما تنحو في وظائفها نحو فضح الألعاب الدولية، فيقال: هم «يلعبون فينا ويستغلّون مواردنا وثرواتنا ومستقبلنا». لا تحدّد هذه ال«هم» الأهداف بل تؤشّر إلى انكشاف الاستراتيجيات السياسية المستوردة بل إلى الحروب المفروضة والضرورية.

وفي الإجابة عن الأسئلة: لماذا يلعب القوي شخصاً أو دولة بالنار؟ يلعب لأنّه يلعب بحثاً عن أسواق للسلاح والسيطرة.

ولماذا يلعب؟ لأنّه في أثناء اللعب وبعده لا يمكنك أن تطرح أسئلة من هذا النوع أمام «الكبار». ستبقى اللعبة الدموية خالية دوماً من ال «لماذا». تختفي السببيّة المتمسكة بالسؤال إياه.

لماذا؟ لأن السؤال عن السبب أو الهدف يأتي بعد حصول الحرب أو الحدث وتفكيك أغراضه ومفاجآته وتعداد ضحاياه والخرائب والكوارث والأفكار والاختبارات الدولية والنوايا التي سبقت تحقيق اللعبة أو غامرت بتطبيقها.

في الإجابة الثانية، أنقل ما قاله جنرال أمريكي، تعليقاً على سقوط مسيّرتين من دون طيّار في ضاحية بيروت (25-08-2019) انفجرت إحداها وخلّفت أضراراً لدى تحطّمها ممّا ولّد هلعاً في لبنان من أن تجرّ «لعبة» الطائرات إلى حروبٍ واسعة كما يحصل اليوم. قال الجنرال: «يكفيك اليوم أن تبحر في الكومبيوتر بحثاً عن مستقبل اللعب في حروب الطائرات من دون طيّارين، كي تدرك على أي كوكب نحن نعيش، وكيف باتت الحروب والاستراتيجيات خاضعة لمنطق الألعاب الإلكترونية التي لا تفترق عن حروبنا العسكرية وألعاب أطفالنا وأحفادنا على الشاشات. مثلما كان يطلق طفل طائرة ورقية يحملها الهواء مسافة قصيرة، أو صار يلعب بصور حروبنا التي خضناها ونخوضها في العالم منسوخة على أقراصٍ مدمّجة أو عبر التطبيقات الإلكترونية المجّانية والتي تؤسّس للثقافات والألعاب المعاصرة الخطيرة التي لا حدود لها، باتت الدول الكبرى تستخدم نور الشمس لإطلاق طائرات قادرة على التقاط ونقل أبسط صوت وحركة فوق الأرض، لا حركات البشر والكائنات وحسب بل العالم المصنوع الموازي للبشر، وهي تتفنّن في خوض الحروب وعدم الاستقرار. لقد دخلت البشرية في عصر«الأتمتة» حيث يضمن المهاجم سلامته بتحريك الطائرات المسيّرة وقيادتها بعدما استنسخ طيور الدنيا وحشراتها للتصوير وبثّ الصور من معاقل الأعداء وكذلك تحريك القوارب والأشرعة والسفن والماكينات والمخترعات المتنوّعة من بعد بواسطة الضغط على أزرار التوجيه الإلكتروني. زالت الفروق بين الآباء والأبناء من زمنٍ بعيد في الدنيا حيث كنّا وما زلنا نقصف حيث نشاء المدن والأكواخ والفقراء ونحن في قمرات الطائرات المبرّدة تماماً مثل أولادنا الذين يلعبون ألاعيب الحروب وهم ينتظروننا في زوايا قصورنا الفخمة. هل أقصد أنّ الحروب المستقبلية وإعادة رسم مستقبل الدول تتّجه أكثر فأكثر إلى نوعٍ من الألعاب؟ إنّها كذلك على الأرجح، بالنسبة إلى المواقع المتبادلة في مفاهيم السلطات والسياسات والدول والزعامات والطموحات التي لا حدود لها والتي تتشابه مع تطلّعات الأطفال وخيالاتهم ومغامراتهم قبل أن يتملّكهم الإدراك بالمخاطر اللذيذة».

نعم تُبنى المخاطرة على فكرة اللعب أولاً، لا على المعرفة والثقافة والحكمة، وتبدو لي ثانياً خاضعة بوسائلها بمواقعها اللانهائيّة المحتملة إلى منطق الألعاب الشديد التعقيد. وعليه لم يُحسم الصراع الدموي تاريخياً ببساطة، لأنّ طرفي اللعبة المتعدّدة الوجوه يثبتان وجودهما بجهود تختلف في تضافرها وسرعتها من طرف إلى آخر. وتبرز «اللذة» بتحقيق الذات مضاعفة وغامضة لصناعة التدمير.