عندما يستطلع الإنسان أمراً له أهمية السلم والحرب في منطقتنا، يجد نفسه في دوامة الدم المستمر. ومن استقراء مجموعة من التطورات الأخيرة يتبين أن المنطقة لن تهدأ قريباً، فصراع المشروعين قائم، الصهيوني والإمبراطوري الإيراني، لن يهدأ ذلك الصراع إلا بجلب أحدهما إلى ساحة التسوية، وهي تسوية صعبة، لأن كل طرف يريد الانتصار.

فوضع اللاحرب واللاسلم المعطل للتنمية في المنطقة يبدو أنه لم يصل إلى نهاياته، بل يتصاعد. المعركة المقبلة سوف يدفع ثمنها بالدم والخراب أهلنا في جنوب لبنان وربما كل لبنان، والمفارقة أن التعليمات تأتي من شمال إيران (طهران) البعيدة، مستفيدة من الوجع العربي تجاه صلف الصهيونية العنصرية.

مصادر "حزب الله" تروّج لقبضتها العسكرية وتهدد الجوار الإقليمي، وتتحدث عن أسلحة فتاكة لم يعلن عنها بعد، ولقدرة على حشد الملايين مع مقاتليها إن وقعت الحرب، مشعلة حرباً إقليمية شعواء. كل ذلك يقودنا إلى القول إن تلك التصريحات تناقض أول درس في الحروب وهو الكتمان، لذلك في الغالب فإن الحرب الموسعة في الجبهة الجنوبية اللبنانية لن تقع بمبادرة من الضاحية، بل هي آخر من يرغب في الحرب.

السبب لأن طهران لا تريد أن تقع تلك الحرب التي قد تفقدها إحدى أذرعتها وهي تريد أن تحتفظ بقوة ميليشيوية في كل من لبنان واليمن والعراق، أو في أي بقعة عربية تستطيع أن تجند لها مجموعات موالية لإشغال المنطقة متى ما كانت لها مصلحة، أو حتى تطويعها لمشروعها.

لإيران كما هو معروف مجموعة من الأذرع استخدمتها ولا تزال لتحقيق أغراضها الاستراتيجية، منها "حماس" و"الجهاد" في غزة و"حزب الله" في لبنان وفصائل مسلحة في العراق والحوثي في اليمن. تلك هي المجموعات المسلحة التي ترى طهران أنها تحارب بها، حتى لا تنتقل الحرب إلى الأراضي الإيرانية، كما أعلنت طهران تكراراً، غير الخلايا النائمة في أماكن أخرى.

واضح أن الحرب في غزة قد قاربت على تصفية إحدى أذرع إيران، بصرف النظر عن المخزون العاطفي الذي يحمله العربي. واقع الأمر أن هناك توافقاً شبه دولي على تصفية تلك الذراع البديلة في غزة لم يخرج إلى العلن حتى الآن، إلا أن من السذاجة الافتراض أن ليس هناك بديل مطروح لمستقبل غزة في الحجرات المغلقة في العواصم ذات الشأن!

خروج "حماس" و"الجهاد" من المعادلة هو خسارة بيّنة لطهران، كما أن الاشتباك المباشر بين إسرائيل وإيران أصبح مستبعداً، بعد تجربة قصيرة، ولكن في نيسان (أبريل) الماضي اكتشفت إيران أن أفضل السبل للربح من دون خسارة هي الحرب بالوكالة فتم استبعاد الاشتباك المباشر، ومع قرب تصفية مناصري المشروع الإيراني في غزة، فإن الباقي وذا الثقل النسبي هو "حزب الله" والحوثي.

المعركة الأخيرة لطهران في غزة هي الإبقاء على ما أمكن من نفوذ لـ"حماس" ولو بشروط، وذاك بيّن في المفاوضات الأخيرة، فلا ذكر لدولة فلسطينية، ولا ذكر لتحقيق المصير، المطلوب في المفاوضات أن تبقى "حماس" في غزة، حتى من دون سلاح، وتقوم هي بإعادة الإعمار!

ذلك مطلب إيراني، وفي الغالب لن يتحقق.

المخطط في طهران ربما يسلم بأن أحدى أذرعه لم يعد لها نفع كما في السابق، بقيت ذراعان، أهمهما ذراع البحر الأبيض (حزب الله) ويمكن التهويش به، ولكن لا يمكن استخدامه، لأن بقاءه أولوية تتقدم على أي أولوية أخرى، بما فيها الحرب.

تلك الضجة الإعلامية والتضخيم الذي يقول بأن دخول "حزب الله" إلى حرب واسعة مع إسرائيل يعني التحرير الكامل وفناء إسرائيل يسمعان في آذان المتحمسين، كما كانت تسمع موسيقى فاغنر في آذان جنود الرايخ الثالث الألماني إبان الحرب العظمى الثانية، ولكنهم خسروا الحرب!

قرار الحرب من عدمها في جنوب لبنان هو إسرائيلي، ومطلب إسرائيل هو تحقيق حرفي لقرار أممي هو القرار 1701 الذي صدر في 11 آب (أغسطس) 2006 بالإجماع في مجلس الأمن، وقد صرح حسن نصر الله وقتها أن قواته سوف تحترم القرار، بما فيه وجود فاصل جغرافي بين الحدود الشمالية لإسرائيل وميليشيات "حزب الله" يشغله الجيش اللبناني وقوات دولية، مع خطوة مضافة أخرى هي تجريد الحزب من سلاحه الاستراتيجي!

النتيجة النهائية أن لا ايران ولا "حزب الله" لهما رغبة أو حتى نية في شن حرب، كل ما يقال هو للاستهلاك من قبل السذج، لأن بقاء شوكة مهددة إيرانية في شرق المتوسط هو بالنسبة إلى إيران أفضلية، حتى لو كان البديل الافتراضي تحرير كل فلسطين!

يبقى هل يمكن إسرائيل أن تصرف النظر عن بقاء شوكة قد تنبت لها حربة في وقت لاحق؟ من تجربة "حماس" الصعبة، ذلك أمر غير مضمون لسلام دائم، وبالتالي قد تقدم على عملية عسكرية في جنوب لبنان تطال البنية التحتية للحزب، وتنزع من وجهة نظرها تهديداً آخر. ربما يناسب ذلك الأغلبية الإسرائيلية، وحتى الاعتراض عليه من الإدارة الأميركية سيبقى شكلياً.

تقع الحرب الموسعة في لبنان أو لا تقع، هو بيد تل أبيب، قد تتكيف أميركا مع تجميد الصراع، ولكن في الغالب لن تتكيف إسرائيل، غير ذلك هي أمنيات تكتنفها العواطف!