إحدى الظواهر التي يمكن تبصرها بملاحظة ما يدور بين يدي منافسات بطولة أمم أوروبا لكرة القدم، انحياز جماهير المشجعين الجارف للمشاعر القومية. لا ينشغل الأوروبيون في هذه المناسبة بغير الاصطفاف خلف منتخبات بلادهم الأم، والاحتفاء الشديد بأعلامهم وأناشيدهم ومواريثهم التليدة.

بين صافرتي البداية والنهاية لكل مباراة، لا صوت يعلو في مدرجات التشجيع وخارجها على شخصية الدولة الوطنية.. لا مجال هنا ولا مكان لأحاديث الوحدة والاتحاد والتعاون والتشبيكات الخارجية القارية.. الجميع يرتد إلى ولاءاته القومية الأولى، ويجتهد في التعبير عن ذلك بما تيسر من الرموز والشعارات والأغاني والأهازيج الموروثة من أزمنة غابرة.

رب قائل إن هذا الالتفاف أو الانكماش الجماهيري على الذوات، يعد تجلياً لـ«التطرف القومي» الساكن بين جوانح سواد الأوروبيين.. أولئك الذين يتخذون من هذه المنافسة وما يحاكيها، سبيلاً للإفصاح عن هذا المكنون والبوح به.. هذا جائز. لكنه يبقى في تقديرنا «تطرفاً حميداً»، وقد يكون مرغوباً فيه، طالما انحصر وظيفياً وعملياً في التنفيس عما يدور في أغوار الوجدانات والضمائر.

آباء التيار الوحدوي الأوروبي وخلفاؤهم لم يعمدوا، في النظرية ولا في التطبيق، إلى تجاهل التنوع التاريخي متعدد المصادر والمظاهر في ربوع القارة العجوز، بل وجدوه سبيلاً لإغناء تجربتهم.. وهو ما يعرف فقهياً بالتعددية في إطار الوحدة. وعليه، فإنهم، في الأصل، لا يرون في مشهد الاحتشاد خلف الهويات القومية، المصاحب للموسم الكروي القائم ونحوه من المواسم، تحدياً لتوجهاتهم. غير أن ما يدعو للقلق الآن، تزامن هذه الاحتشادات، ذات الطبيعة الأقرب إلى الحركة العشوائية التلقائية، وتعامدها وتوازيها، مع تطرف آخر من نوع «خبيث» يتفاعل خارج الملاعب.

خطورة هذا النوع تنشأ من صدوره وإشعاعه عن قوى منظمة مدنياً وحزبياً، راحت مؤخراً تغزو البيئة الشعبية لدول القارة، وفق آليات وأدوات فكرية وحركية بالغة التأثير.

التنافس والاصطكاك الذي تمارسه هذه القوى، الموصوفة بالتشدد اليميني، يتعارض تماماً مع آيات التنوع المثمر الذي يعترف به ويقره الفقه الوحدوي الأوروبي التقليدي.

نفهم ذلك من قراءة خطابهم السياسي المناهض والمتحدي، شكلاً ومضموناً، لهذا الفقه. وليس بلا مغزى على تضخم حجم المفتونين شعبياً بهذا الخطاب، الذي ينافس من خارج الصندوق الوحدوي ومؤسساته، نتائج الانتخابات البرلمانية الاتحادية الأخيرة ؛ التي أكدت استحواذه على ثقة قطاعات شعبية كبيرة، توشك أن تحقق لأصحابه التمكين اللازم لزلزلة التجربة الاتحادية القارية بقضها وقضيضها.

المدهش حقاً أن هذا التحول الفارق، لصالح تيارات اللاوحدويين والقوميين الشعبويين وأنصار الميول الانعزالية، لا يتناسب منطقياً مع كثير من المعطيات الأوروبية وحقائق البيئة الدولية المتغيرة من حول القارة.

ومن ذلك بلا حصر، أن هذه التيارات تبغض الهجرة والمهاجرين واللاجئين الأجانب، بينما تشي المقاربات العقلانية بحاجة معظم دول القارة إلى من يعوض النقص الشديد في العمالة، لتشغيل دواليب الإنتاج بالجدوى اللازمة لمنازلة أقوياء الاقتصاد العالمي. ثم إن العكوف على أصنام القوميات واستنكار الشعائر والمثل الاتحادية، أمور تعني أن هؤلاء القوم لم يعتبروا بنموذج البريكست أو الشرود البريطاني، الذي ثبت عقمه وفشله، حتى إن البريطانيين يتجادلون اليوم حول طريق العدول عن توجههم، والعودة إلى العباءة الاتحادية كشأن الابن الضال.

علاوة على ذلك، لا يجد المرء حكمة في أي معاكسة أوروبية لتوجه عالمي يخرق الأعين، موجزه سعي الدول التي تتوسم في ذواتها قدراً من التلاقي في الأهداف الاقتصادية أو السياسية، أو الاستراتيجية عموماً، إلى التكتل والانضواء في أطر تعاونية أو تشاركية أو حتى اتحادية بمعنى ما.

تصح الإشارة هنا إلى تجمع البريكس مثلاً.. هذا من دون الاستطراد إلى مخالفة الميول والتفضيلات الانعزالية الأوروبية لموجبات التصدي أو التحسب الجماعي، لما يعتبر تحدياً استراتيجياً بأكثر من معنى، قادماً من جهة الشرق.. من الدب الروسي من دون ريب، أو من قبل التنين الصيني بقدر أقل، أو منهما معاً على وجه الاحتمال.

هل يعني ذلك أن الأوروبيين يعانون من حالة حيرة لا إرادية، تكبر مع الوقت وتتفشى بينهم، وتكاد تنحدر بأكثريتهم تدريجياً نحو «تطرف خبيث».. بما يسوقهم إلى الأخذ بخيارات لا تقرها الحسابات العقلانية المستنيرة قارياً وعالمياً؟!.. لننتظر ونتأمل ونرَ.