طالعتنا وكالات الأنباء هذا الشهر بتصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي زار بوركينا فاسو، يُشير فيها إلى أن عدد المدربين العسكريين الروس سيزداد، مع تأكيده إلى وجود تدريب داخل روسيا لممثلين عن القوات المسلحة وقوات الأمن في بوركينا فاسو.. السؤال هنا: ماذا يعني ذلك؟ وما الذي يُخطط له صُنَّاع القرار في الكرملين بالنسبة لرؤيتهم التمددية داخل إفريقيا، على حساب التراجع الأميركي والغربي، خاصة الفرنسي؟

يمكن ملاحظة أمر في غاية الأهمية، خلال الشهور الثلاثة الماضية (أبريل، مايو، يونيو)، بالنسبة لعلاقة روسيا مع عدد من الدول الأفريقية، والتي أضعها في خانة احتمال واحدة لا ثاني لها، وهي رغبة موسكو والرئيس فلاديمير بوتين في "إعادة ضبط التوازن الإستراتيجي في أفريقيا بما يتوافق مع المصالح الروسية، من خلال تهديد المصالح الأميركية والغربية وحلفائهم في القارة الذين باتوا يتساقطون بفعل الانقلابات التي حدثت" في عدة بلدان، فضلًا عن نقمة عدد آخر على السياسات الغربية تجاهها".

ما يمكن تأكيده، هو أن روسيا فعلًا عزّزت في السنوات الأخيرة من تعاونها الكبير مع عدد من دول أفريقيا خاصة في المجال العسكري التقني، وهي التي كانت تحت وصاية الغرب لكنها باتت اليوم موقع قواعد عسكرية روسية، بل هناك معلومات تُشير إلى أن مالي والنيجر وبوركينا فاسو طالبت مؤخرا بإنشاء تحالف دفاعي مشترك مع روسيا لتعزيز العلاقات الثنائية معها ومع غيرها من الدول المتعاطفة.

وليس بعيدًا عنا، وبسبب الحرب الدائرة بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا قوات الدعم السريع، وفي ظل خلط أوراق الصراع الدائر في الجارة السودان، فضلًا عن تراجع التأثير الأميركي، هناك أحاديث نسمعها هنا وهناك، من رغبة مجلس السيادة وقادة الحكومة السودانية إلى تبني ترسيخ العلاقات مع روسيا، وهو ما يفتح الباب أمام حلمها في إنشاء قاعدة على ساحل البحر الأحمر، وهو ما يخشاه الأميركان خاصة بعد التقارب الروسي السوداني الأخير.

ومن المهم العودة بالذاكرة لمطلع (مايو 2024)، بعد زيارة رسمية محورية قام بها المبعوث الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، إلى بورتسودان، وهو ما يُعطي دلالة على رغبة روسية في فك الارتباط بقوات الدعم السريع، ورغبتها الجادة في إعادة طرح بناء قاعدة بحرية على ساحل السودان على البحر الأحمر، وهو الأمر الذي سيُحيي اتفاقية عام 2017 بين الحكومة السودانية السابقة برئاسة عمر البشير والرئيس فلاديمير بوتين بإنشاء تلك القاعدة، وفي فبراير 2021 رست سفن حربية روسية في بورتسودان، وشرعت الفرقاطة الروسية «أدميرال غريغورفيتش» في إنزال معدات لإقامة منشأة عسكرية في قاعدة «فلامنغو» البحرية السودانية شمال بورتسودان، إلا أن أصحاب العهد الجديد في السودان، فضلوا تعليق الاتفاقية، لحين مصادقة البرلمان المنتخب عليها، فانسحبت القوة الروسية، لكن موسكو ما تزال متمسكة بذلك من جهتها.

لفهم التغيرات والرغبة الروسية في التواجد الإستراتيجي العميق في القارة السمراء، وغيرها من الجيوسياسيات الأخرى من العالم، أدعوكم إلى قراءة ورقة "فلاديمير بوتين ومستقبل العالم الجديد"، للصديق العزيز الدكتور ماجد التركي، وهو رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية الروسية، الذي أوضح "الخطأ الإستراتيجي" الذي وقع فيه "بوتين" طوال عقدين (2000-2020) بعد تحويل روسيا إلى حليف للغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001"، وهو ما كانت نتائجه على موسكو كبيرة للغاية، وخسرت بذلك ملفات دولية كانت بيدها، ومصالح مشتركة مع أطراف بعيدة وقريبة جغرافيًا، فضلًا عن خسارة ثقة الدول النامية على المدى الإستراتيجي، وفقدان هيبة المؤسسات الأممية، ومن هنا تبذل روسيا اليوم الكثير لتستعيد "هيبتها ومكانتها"، لذا جاءت الاستدارة الروسية نحو الذات. دمتم بخير.