الصيفُ هو الصيف. سواءٌ حلَّ متأخراً عن موعده، كما فعل هذا العام في بريطانيا، حتى تسبب في إزعاج خبراء دائرة الأرصاد الجوية، واعتقدوا أنّه ربما أضاع الطريق، أو جاء متردداً، وكأنه ضيفٌ دُعي إلى حضور حفل، ولا رغبة لديه في الحضور، وليس أمامه من مهرب. فلا يجد بُدّاً من جرجرة قدميه.
في غزّة كان حلوله ملتهباً. وحركة «حماس» ما زالت متخندقة وتقاتل بشراسة، في ظروف قاسية، سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً وإنسانياً. لكن هذا الصيف، في رأيي، سيكون حاسماً. وبدأت تلوح بداية النهاية للحرب التي اشتعلت في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. ولا أحد يعرف عما سينقشع غبارها سياسياً. واحتمال ظهور دولة فلسطينية معترف بها رسمياً دولياً، ما زال على الطاولة، رغماً عن رفض وعناد اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم. والأمل ألّا يدير العالم ظهره إلى الشعب الفلسطيني ويتخلى عنه، كما فعل طيلة سبعين عاماً.
وفي أوكرانيا، هناك احتمال أن يضع فصل الصيف هذا نهاية سياسية لحرب الاستنزاف الطويلة عسكرياً، بعد أن تبيّن أن لا قدرة للطرفين على حسمها بقوة السلاح، رغم كل ما أحرزه الجيش الروسي من تقدم. الغربُ بقيادة واشنطن لن يقبل أو يسمح بانتصار روسي. واستمرار الحرب أرهق أوكرانيا وحلفاءها في الغرب، كما أرهق روسيا. والحلول المقترحة على الطاولة لإنهاء الحرب لا تشجع، بسبب رفض الطرفين تقديم تنازلات. لكننا في هذا الصيف سنشهد انعطافة سياسية في مجرى الأحداث، تعجل بوقف الحرب، وقد تكون حاسمة.
وفي المعارك الانتخابية التي دارت، حتى الآن، في مناطق مختلفة من العالم، حُسمت أمور كثيرة. في أوروبا، وفي انتخابات البرلمان الأوروبي، فُتحت صفحات جديدة، موقّعة بأسماء أحزاب وتنظيمات وحركات يمينية متشددة، تمكنت من خرق وتهديم السدود السياسية المقامة ضدها، واكتسحت صناديق الانتخابات. وبدأت تفرض أجندتها السياسية. اليمين المتشدد في أوروبا يتقدم طاوياً المسافات وثباً. وأوروبا التي نعرفها، انعطفت مؤخراً انعطافة حادة نحو طريق سلكتها قديماً، وقادتها إلى كارثة.
في جنوب أفريقيا، حلّ الصيف هذا العام في موعده. وكان، حسب المتوقع، صيفاً حاسماً سياسياً؛ إذ تلاشت سُحب الأسئلة عن مصير الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الأفريقي) انتخابياً، وبان الخيط الأبيض من الأسود سريعاً للمراقبين والمعلقين وللمهتمين. وتمكن الحزب الحاكم، لحسن الحظ، من البقاء على رأس الهرم السياسي لخمس سنوات أخرى، وإن بشكل مختلف عما سبق، بسبب فقدانه لأغلبيته البرلمانية. وحُسم الأمر بعد مرور وقت قصير من نهاية الانتخابات، بعقد ائتلاف سياسي مع حزب غريم. وها هي جنوب أفريقيا بعد ثلاثين عاماً على هزيمة ونهاية العنصرية، تدخل مرحلة سياسية جديدة، وتحت قيادة حكومة ائتلافية للمرة الأولى.
وفي الهند، تكرر السيناريو السياسي ذاته. حيث فقد الحزب الحاكم بقيادة رئيس الحكومة ناريندرا مودي أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى بعد عشرة أعوام من التمتع بالسيطرة على القرار السياسي، ووجد نفسه مضطراً للدخول في ائتلاف مع حزبين صغيرين. جاء الصيف الهندي مبكراً سياسياً وطقسياً، ومنذ بدايته حُسمت فيه الأمور. وأعتقد أنه سيكون صيفاً مزعجاً لزعيم حزب ورئيس حكومة تعوّد، خلال عقدين من الزمن، على الجلوس على كرسيه من دون مضايقة من أحد.
الصيف الباريسي هذا العام شديد السخونة على صاحب قصر الإليزيه الرئيس إيمانويل ماكرون، ومن المتوقع أن يكون حاسماً في تحديد مصير معركة انتخابية مصيرية.
عقب هزيمة حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي فقد الرئيس ماكرون صبره على ما أحرزه حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد تحت قيادة ماري لوبن من انتصارات في الانتخابات النيابية وفي البرلمان الأوروبي.
الآن، باريس، وكل المدن الفرنسية، تستعد لخوض غمار معركة انتخابية قد تقرر مصير فرنسا سياسياً لسنوات طويلة قادمة. الصراع الآن بات واضحاً بين اليمين المتشدد واليسار المعتدل. وخلال أسابيع قليلة سوف تتضح الأمور.
فرنسا تقف الآن على مفترق تاريخي. على الضفة اليُمنى منه تقف ماري لوبن زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني، وقبالتها يقف الرئيس ماكرون. نتائج الانتخابات النيابية الخاطفة، التي أعلنها فجأة الرئيس ماكرون، ستقرر في أي من الطريقين ستسير فرنسا. استبيانات الرأي العام، تؤكد أن الناخبين الفرنسيين قد ملّوا من وعود الرئيس ماكرون، وينظرون إلى ماري لوبن بشكل مغاير.
في فصل صيف عام 2024 سوف يحسم الفرنسيون أمرهم، ويختارون الطريق التي يرونها مناسبة لهم. والأمل في أن يتمكنوا من تجنّب اختيار تلك التي تقود إلى غلق الأبواب والنوافذ بينهم وبين تاريخهم التنويري المضيء.
وفي بريطانيا، رغم تأخر حلول الصيف، فإنه سيكون حاسماً. وربما، حسب تكهنات المعلقين، يقود إلى انعطافة غير مسبوقة سياسياً، إذا صدقت نتائج استطلاعات الرأي العام.
الانعطافة المقصودة احتمال أن تؤدي إلى تبدل في الواقع السياسي، بوصول حزب العمال إلى الحكم بأغلبية برلمانية كبيرة، ويتولى حزب الأحرار الديمقراطيين مهمة قيادة المعارضة، وليس حزب المحافظين.
التعليقات