العقلية العربية مُمعِنة في إرجاء الأمور والتوكّل، وبشكل قد يكون أحياناً مفرطاً وسلبياً، والثقافة العربية بشكل عام زاخرة بالأمثال، التي تدل ترسّخ مثل هذه العقلية، فمثلاً يتداول الناس دائماً وبفخر مقولة «اصرف ما في الجيب.. يأتيك ما في الغيب»، أو «هذا اللي يجهّز الدوا قبل الفلعة»، والفلعة هنا يُقصَد بها ضربة الرأس القوية، وغيرها من هذه الأمثال المتواجدة في كل الدول العربية، والتي تعكس حجم تراخينا واستسلامنا في التعامل مع أمور كثيرة في الحياة، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الدول والمؤسسات.

غالباً ما نسمع لهجة الفرح والفخر لإنشاء أكبر مُجمّع، وأكبر مستشفى، وأعلى برج، وأوسع مسرح، وأضخم مبنى سكني، لكننا نخفق وبشكل عام في المحافظة على هذه المنشآت من التآكل جراء الزمن والعوامل البيئية والتوسّع السكاني أو الجغرافي.

انقطاع الكهرباء عن بعض مناطق الكويت ليس حادثة عابرة، فبالرغم من عودة التيار في زمن قياسي لكل المرافق والمناطق، فإنها تبقى كحادثة مؤشراً على خلل عربي كامن في الثقافة بشكل عام حول أهمية الصيانة، التي تفوق هنا مهمة البناء مهما بلغ علوه أو تكلفته.

ففي ظل التوسّع في قطاع البناء والمرافق، ظهرت مفرده حديثة نوعاً ما في استراتيجيات التنمية يُطلَق عليها «الصيانة التنبؤية»، وهو إجراء يقوم على تحليل البيانات والمعلومات، بهدف توقّع وتحديد المشكلات المُحتَمَلَة قبل حدوثها بدلًا من الانتظار حتى تحدث الأعطال، حيث يتم استخدام البيانات والتحليلات لتحديد متى وكيف قد يحدث الفشل، مما يتيح للفرق تنفيذ الإجراءات الصحيحة لتجنبه أو تقليل تأثيره.

لقد بُح صوت المختصين والفنيين والنواب، بل وحتى بعض كتّاب الزوايا، والناس في مجالسهم، وهم يحذرون من تضاعف الضغط على منظومة الكهرباء في الكويت، ومع ذلك فقد بقي الوضع ساكناً بانتظار أن تُحرّكه عاصفة، وكما حدث في الأسبوع الماضي، لنكتشف أن الصيانة التنبؤية شبه غائبة من أولويات الدولة والمسؤولين، علماً بأن الصيانة كإجراء هي عملية من المفترض أن تكون مستمرة، وليست متوقفة على طارئ أو عارض قد يصيب أي منظومة بالخلل، ومن ثم التوقف.

للأسف أن الصيانة كمفهوم غير متاح في الثقافة العربية بشكل عام، ليس على مستوى الحكومات والمؤسسات، وإنما على مستوى الأفراد كذلك، فأشياؤنا دائماً ما تكون عرضة للتلف والخراب بسبب انعدام عنصر الصيانة بشكل مستمر، سواء في المنازل أو الملابس أو في أبسط الأشياء، والصورة تكون واضحة أكثر حين تكون المقارنة بيننا وبين أي دولة أوروبية، هناك تعيش الملابس أطول، وتبقى البيوت صالحة لفترة أطول، هذا على المستوى الفردي، أما على مستوى الدول، فنجد أن ماكنة الصيانة هناك تفوق كثيراً في نشاطها كل أجهزة ومعدات البناء، صيانة طرق ومبانٍ وبحيرات وأنهار وتربة ومواصلات، كلها تبدأ صيانتها قبل أن تصلها ملامح التلف، وتلك بالمناسبة عملية اقتصادية مُجدية كثيراً، فالصيانة المستمرة تقلل وبشكل كبير من التكاليف الإجمالية، أو من تلك الناجمة عن التوقف غير المخطط له أو الطارئ.

تعتبر الصيانة التنبؤية منهجاً استباقياً تنتهجه أغلب المجتمعات، التي تعمل وفقاً لرؤية مستقبلية بعيدة النظر، لكنها وبكل أسف لا تزل بعيدة عن النظر العربي بشكل عام، وعلى الرغم من كونها، أي الصيانة التنبؤية، قد حققت رواجاً وتقدماً في ظل التكنولوجيا الحديثة، فإنها ما زالت تحبو في مجتمعاتنا التي تؤمن بصيانة «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، واستراتيجية «ماكو إلا العافية».

سعاد فهد المعجل