شهدت الساحة اللبنانية العديد من التطورات والتغييرات منذ أن قرر "حزب الله" فتح جبهة الجنوب ضد إسرائيل تضامناً مع غزة ضمن استراتيجية "وحدة الساحات" التي تجمع محور الممانعة بقيادة إيران. فمنذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تدور حرب في جنوب لبنان، تتسع أحياناً لتصل إلى البقاع، فيما تقصف صواريخ "حزب الله" ومسيراته شمال إسرائيل. وهناك خشية قوية اليوم في الشارع اللبناني من اتساع هذه المواجهات إلى حرب شاملة تتضمن اجتياحاً برياً إسرائيلياً. ولقد دعت دول عدة مواطنيها لعدم السفر إلى لبنان ومغادرته فوراً. ويستمر الرفض الأميركي لتوسيع الحرب، وتُمارَس ضغوط كبيرة في هذا الإطار على إسرائيل لتجنبها. كما تنشط الدبلوماسية الأميركية لترتيب اتفاق بين إسرائيل و"حزب الله" لمنع توسّع الحرب وإنهائها فور التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، والذي يبقى موعده مجهولاً ورهن التطورات هناك. لكن بغض النظر عما تخبئه الأيام، فإن فتح الجبهة الجنوبية كانت له آثار كبيرة على الساحة اللبنانية، ولو انتهت الحرب اليوم، فإن اللبنانيين سيتعاملون مع واقع مستجد، نستعرض أبرز معالمه.
تتحدث جهات مطلعة على أن هناك نحو 120 ألف نازح لبناني فروا من قراهم وبلداتهم في الجنوب، وهم سيواجهون أزمة كبيرة تتمثل في فقدان جزء كبير منهم منازلهم التي دُمرت أو تضررت نتيجة القصف الإسرائيلي. كما فقد العديد منهم مصدر دخله نتيجة احتراق أراضيهم بسبب قصفها بالفوسفور الأبيض، ما يجعلها غير صالحة للزراعة سنوات طويلة. من سيعوض على هؤلاء ويغطي تكلفة إعادة بناء قراهم في دولة مفلسة ومنعزلة عن محيطها العربي؟
تماهي الحكومة اللبنانية مع رواية "حزب الله" حول أسباب فتح جبهة الجنوب، وربط التهدئة بوقف إطلاق النار في غزة هو بالفعل تبنٍّ رسمي لسياسة "وحدة الساحات". فلقد تحولت الحكومة فعلياً من جهة تنأى بنفسها عن قرارات "الحزب" إلى جهة متبنية لها، رغم غياب الإجماع اللبناني على قرار الحرب الذي اتخذه "حزب الله" منفرداً، وهذا ستترتب عليه حتماً نتائج عديدة، داخلياً وإقليمياً ودولياً. فالدولة اللبنانية جعلت نفسها جزءاً من محور الممانعة بتبنيها سياسة "وحدة الساحات"، وهذا سينعكس على علاقاتها مع مكونات الساحة السياسية اللبنانية والمحيط العربي. وعلى أي رئيس مقبل للجمهورية وحكوماته أن توضح موقفها من مسألة وحدة الساحات والتي تعني عملياً ربط لبنان بتحالف عسكري إقليمي تحتم عليه فتح جبهة الجنوب مع إسرائيل كلما واجه أي من أعضاء المحور حرباً مع أميركا أو إسرائيل.
تهديد السيد حسن نصر الله بقصف القواعد الجوية البريطانية في قبرص غيّر رؤية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لـ"حزب الله" في لبنان. فبريطانيا هي جزء من حلف الناتو، وأي جهة تعتدي عليها ستجد نفسها بمواجهة باقي أعضاء الحلف، أي أغلبية دول الاتحاد الأوروبي. كانت هذه الدول تراقب تسلح "حزب الله" بصواريخ بالستية وجوالة، ولكنها كانت تضع ذلك في إطار الصراع الإقليمي بين "محور الممانعة" وإسرائيل ودول عربية أخرى. أما وقد أعرب "حزب الله" عن نيته استخدام هذه الصواريخ ضد قبرص وبريطانيا، فرؤية هذه الدول للأسلحة الاستراتيجية لـ"الحزب" تغيرت وستبدأ بتقييم التهديد الذي تمثله لها ولأمن شرق المتوسط. وستظهر آثار ذلك في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، خاصة مع استمرار هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، وتبعات ذلك على الملاحة والأمن الدوليين. وبما أن الحكومة اللبنانية باتت تعكس مواقف "حزب الله" وتتبناها، فهي ستُعتبر مسؤولة عن تهديدات "الحزب" وتصرفاته.
أما داخلياً، فأحداث الأشهر التسعة الأخيرة وحّدت قوى الإسلام السياسي السنية والشيعية بشكل غير مسبوق، حيث عمد "حزب الله" إلى تسليح "الجماعة الإسلامية" وإعطائها هامشاً للتحرك عسكرياً في مناطق حدودية ضد إسرائيل، وفي مناطق وجودها بقاعاً وشمالاً. وكون "الجماعة الإسلامية" تعتبر الجناح اللبناني لتنظيم "الإخوان المسلمين"، أي العدو اللدود لحكومات مصر ودول الخليج العربي، فإن علاقة لبنان بمحيطه العربي ستزداد سوءاً، خصوصاً إذا استفادت "الجماعة الإسلامية" من غياب الزعامة السياسية الموحدة للسنة في لبنان، وانكفاء دار الفتوى عن لعب أي دور سياسي لتعزيز موقع الطائفة السياسي داخلياً. فاذا بقي الحال على ما هو عليه ، فإن حصة "الجماعة الإسلامية" في مجلس النواب قد تزيد، ما يمنحها مقعداً في الحكومات المستقبلية. ويسهل الوجود المسلح للجماعة الإسلامية اختراق مجموعات إسلامية سنية مسلحة من الخارج، وتحديداً من سوريا والعراق، للساحة اللبنانية، الأمر الذي يهدد الأمن الداخلي والسلم الأهلي. فهذه المجموعات خاضت حروباً شرسة مع الجيش اللبناني، وتجاهد القوى الأمنية اللبنانية حتى اليوم لاحتوائها. وهذه المهمة باتت أكثر صعوبة اليوم نتيجة خطوات "حزب الله" الأخيرة.
زادت الحرب من حدة الانقسام الداخلي بين القوى السياسية. فكل منها ينتظر نهاية الحرب لتحديد الخطوات المستقبلية على صعد عدة، وأهمها الانتخابات الرئاسية. فتجنّب توسعة الحرب سيعتبرها "الحزب" نصراً له رغم كل الخسائر في البشر والحجر في جنوب لبنان، هذا في حين توسعة الحرب يعتبرها البعض ضربة كبيرة لـ"الحزب" ستخرجه ضعيفاً وتعزز موقف الآخرين في موضوع الرئاسة وشؤون داخلية أخرى. وكلما ازدادت الانقسامات ارتفع معها منسوب عدم الثقة وتعطلت الحياة السياسية وأضر بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة أصلاً في البلد. ولا ضمانة إن انتهت الحرب اليوم بالوضع الحالي أنه سيكون هناك انتخابات رئاسية وحلول داخلية، بل استمرار لسياسة التعطيل والانهيار الداخلي. ومع تسلح القوى الإسلامية السنية والشيعية، سترتفع أصوات تنادي بتسليح المسيحيين، وهذا يمهد الطريق إلى حرب أهلية.
إن التفرد في فتح الحرب في الجنوب ضمن سياسة "وحدة الساحات" كشف لبنان داخلياً وخارجياً بشكل غير مسبوق، وجعله ساحة مفتوحة للصراعات، ما يتطلب من المعنيين إعادة النظر بما جرى ويجري، وأخذ خطوات توقف الانزلاق لمزيد من الانهيار الداخلي والعزلة الدولية.
التعليقات