إن الأحداث السياسية التي تمر بها قارة أوروبا حالياً، لم تكن يوماً بمثل هذا الزخم من الأحداث والأزمان والأشخاص. تلك القارة العجوز التي كانت يوماً ما قلب وعقل وسيف العالم مرت هذه القارة بتحولات خطيرة، كادت أن تغيب عنها النزعة الإنسانية تلك الفلسفة التي تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شيء.

لا خلاف على أن القرن التاسع عشر كان قرن بزوغ القوميات؛ فابتداءً بمنتصفه تفجرت الروح القومية في كافة البلدان الأوروبية، وفي خضم تلك التيارات تم إعادة رسم خرائط معالم الكثير من الدول، خاصة الصغيرة، لتنجو من الذوبان في وعاء حضارات قاسية وناعمة في آن واحدٍ، واحتوت على تناقضات عميقة بخصوص القضايا الجوهرية لمفهوم الحق والمبادئ والأخلاقية السياسية، حتى أصبحت القوى الموضوعية الطارئة التي تحكمت فيما مضى بمجريات التاريخ، قد طمستها الأحداث التاريخية ونسختها شكلاً ومفهوماً، وأسقطت المقولات والتوقعات والنبوءات التي خلص إليها، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى دول ودويلات، وتأجج النعرات العرقية والدينية والقومية، داخل القطر الواحد.

من هذه الدويلات مولدوفا، تلك الدولة التي كانت جلّ الأراضي الواقعة حالياً تحت سيادتها، حتى عام 1940، جزءاً من جمهورية رومانيا، وبعد غزو السوفييت لأوروبا الشرقية، أنشأوا الجمهورية المولدوفية السوفييتية الاشتراكية.

تلك الدولة الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين، لكن عدد المولدوفيين أكبر من ذلك، فنسبة كبيرة منهم تعمل في الخارج، ما يجعل التقدير الفعلي لعددهم أمراً صعباً، حازت استقلالها من الاتحاد السوفييتي، وهي تشترك في حدودها مع رومانيا من جهة الغرب، أما مع أوكرانيا فتشترك معها من جهتي الشرق والجنوب وهذا ما جعلها في واجهة الأحداث الأخيرة، حيث استقبلت 450 ألف لاجئ أوكراني، ما يجعلها البلد الأوروبي الأكثر استقبالاً للاجئين من أوكرانيا مقارنة بعدد السكان.

وهي تُعد الآن إحدى البؤر الساخنة في أوروبا، والتي قد تنفجر في أية لحظة، بسبب موقعها بين رومانيا وأوكرانيا من جهة، ومن جهة أخرى الأقليات الروسية التي تقطنها، والتي هاجرت إليها عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، حين تعرضت مولدوفا، خلال الحرب العالمية الثانية، لخسائر بشرية كبيرة ما دفع الحكومة السوفييتية بعد انتهاء الحرب إلى ترتيب هجرة القوى العاملة من روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا إلى هذه الجمهورية السوفييتية، وبخاصة إلى المناطق الحضرية فيها. وقد تلقت مولدوفا مخصصات كبيرة من ميزانية الاتحاد السوفييتي لتطوير مرافق صناعية وعلمية. وتم تطوير مدينة كيشيناو، ومن هنا نشأ تجمع بشري كبير غالبيته من الروس في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور موجة القومية في الدول التي كان يتشكل منها ذلك الاتحاد، حدث شرخ في بنية المجتمع المولدوفي، حيث أعلن السكان في الأراضي حول نهر الدنيستر، والذين هم في غالبيتهم من الروس، الانفصال وإعلان قيام جمهورية «ترانسنيستريا»، ما أدى إلى حدوث صدام بين هؤلاء السكان وبين الحكومة المولدوفية، فتدخلت روسيا عسكرياً، وأرسلت جيشها ما أدى إلى توقف مولدوفا عن القتال، وتم عقد اتفاق، وبموجب ذلك الاتفاق تشرف لجنة ثلاثية من «روسيا ومولدوفا وترانسنيستريا» على الترتيبات الأمنية في المنطقة المنزوعة السلاح، وتتضمن تلك المنطقة عشرين موقعاً على جانبي نهر دنيستر.

ولا يزال وقف إطلاق النار سارياً حتى الآن، إلا أن وضع المنطقة السياسي مازال عالقاً، فترانسنيستريا أصبحت فعلياً دولة مستقلة منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من أن هذه الدولة لم تظهر أية مواقف مساندة لروسيا خلال عمليتها في أوكرانيا، لكن هذا الصمت لا يمكن أن يفسر على أنها تريد أن تقف على الحياد حتى لا تغضب أوكرانيا، بل ربما يندرج هذا الصمت في إطار سياسة معينة تلتزم بها مع روسيا، وخصوصاً أن هذه الدولة تعتمد اعتماداً كلياً على الجانب الروسي، وفيها الآن أكثر من 1000 جندي روسي. وهي قوات حفظ سلام لمنع انزلاق الوضع بينها وبين مولدوفا إلى صدام جديد.

وبعد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ظهرت تصريحات مصدرها دول الغرب تقول، إن روسيا سوف توجّه انتباهها بعد الخلاص من أوكرانيا، إلى مولدوفا، وسوف تستخدم جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية كذريعة للسيطرة على هذه الدولة بالكامل. وما عزز هذه التصريحات نائب المنطقة العسكرية الروسية الوسطى؛ إذ قال إن السيطرة على جنوب أوكرانيا تفتح ممراً إلى ترانسنيستريا، مما يعني أن طموح روسيا يتعدى شرق أوكرانيا إلى الاتجاه جنوباً.

ونتيجة ذلك أكدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إطلاق مفاوضات انضمام مولدوفا وأوكرانيا، الثلاثاء الماضي، إلى تكتل الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن مولدوفا تفتقر إلى الاعتراف الدولي الشامل بها، لكنها دولة قائمة على صعيد الواقع، ولا يمكن إلغاؤها أو التغاضي عن وجودها. وإذا عمدت مولدوفا لاستغلال الوضع الراهن، مدفوعة بإغراءات أوروبية، كتلك التي حدثت مع أوكرانيا، وحاولت إعادة ضم تلك الدولة بالقوة، فعندئذٍ قد تجد روسيا نفسها مضطرة للتدخل، كما فعلت مع أبخازيا وشرق أوكرانيا.