قلت للقلم: ما لك؟ تمالك. كان مستلقياً، فانتفض فجأةً، كالبطة الخارجة من البحيرة. قال: بسم الله، أعوذ بالله، رأيت في ما ترى الأمّة، الناخرة، حلقةً سقراطيةً حافلةً، جعلت نفسي جافلة. كان صوته يهدر، محتدماً يزأر، ولم أعرف له نظيراً في باص أو باريتون. حكيم ذو وقار ورصانة، هُما له الناخرة من زلل العقل حصانة. لا ينطق إلا بالسؤال، فلا يغترف من غوغل، ولا يعترف بغثاء ويكيبيديا، لكنك تعرف من نبرته مواطن التراجيديا، ومواطئ الكوميديا.

قلت: هات، أدركني، ما هذا الزبد الذي يذهب جفاء، فلعل في بيانه ما يوجب الاقتداء والاقتفاء. قال: إن صدق فهمي، وأصاب سهمي، فإنه حكيم صبّ كل همومه في همّ الماضي، وجلس يسأل كالمحقق والقاضي، فلا يدع لك الاستجواب، بل يترك لك الجواب. مَغاصات فكره استنطاق التاريخ، لا ما يصدمك من أكاذيب المجتمع الدولي فتقول: «بلا بطيخ». سأل سؤال العالم المتجاهل: انظروا أيها الأعزاء، في ملفات الأرزاء، هل قضى نصف مليون طفل عراقي نحبهم، جوعاً ومرضاً، عندما حاصر هولاكو بغداد، قائلاً عند الغزو والاحتلال: «شغلة حرزانة»، ولم يعضّ ندماً بنانه؟ هل تساءلتم: كيف قتل أكثر من مليون آدمي، في وادي الرافدين فقط، من دون أن تدغدغ شاربة فراشة استفهام، أو تطنّ في سمعه بعوضة استعلام؟ هل كان ذلك لعدم وجود منظمة عالية القدر، مدعاة فخر، كالأمم المنتحبة؟ اليوم ليست من الفجائع منسحبة!

قلت: ويحك، أضعت الفرصة، فجزاؤك قرصة، لمَ لم تُدْل بدلوك وحوْلك وطَوْلك وصوْلك بقولك: أيها القوم، أما آن لعقولكم الإفطار على الفكر بعد طول الصوم؟ على خطى الحكيم نستفسر، لعل شفاء الغليل يُسفر: لقد غزا المغول الأوائل العراق وسوريا، فهل يجرؤ أحد على الافتراء على التاريخ، بانطباق المثل: «ما أشبه الليلة بالبارحة»؟ كم قنبلةً هيروشيميةً يحتاج الأمر ليحدث نظيراً لما أصاب سوريا وليبيا؟ أمّا غزّة فقصة أخرى، فهذه صورة «زوم» على: «إذا زلزلت الأرض زلزالها».

قال: لست أنا من أضاع الفرصة، فلا يعرف متى تكون القنصة، فأهمية السؤال تتمثل في الإحساس بالمسؤولية. هذه هي الإشكالية. منذ كم سنةً ومنتحلو شخصيات الخبراء الاستراتيجيين يتحدثون عن تداعي أحجار الدومينو؟ كم طال بالقلم الهذيان في هذا العمود: إن المنطق ينهش العالم العربي قضمةً قضمةً، لقمةً لقمةً. قلت: لكنك لم تحدثني عن الحلقة السقراطية كيف انتهت. قال: كانت تراجيديا يونانيةً، يبدو أن القهوة التي سقوه من ذلك النوع الذي ترشفه سقراط الأول.

لزوم ما يلزم: النتيجة المرآتية: التاريخ لا يكرر نفسه، الذين لا يفهمون دروسه هم الذين يتكررون.