تموج خريطة العالم بالصراعات العسكرية والاضطرابات السياسية، فالقارة الأوربية لا تزال تشهد الحرب الأوكرانية الروسية، بينما الشرق الأوسط يموج بالصراع الذي يتفجر بين الجيش الإسرائيلي وحركات المقاومة في غزة، بينما القارة الإفريقية تشهد بين الفينة والأخرى انقلابات عسكرية، وثورات شعبية.
ولا يخفى على أحد أجواء الحرب الباردة التي تطفو تارة على السطح بين الولايات المتحدة، والصين.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة تمسك بكثير من خيوط الصراع من خلال الحلفاء، خاصة المجاورين للصين، كاليابان، والهند، والفلبين. ويوم الثلاثاء الماضي، تجددت المناوشات العسكرية بين سفن خفر السواحل الفلبينية والصينية بالقرب من أرخبيل سبارتلي في بحر الصين الجنوبي، وأسفرت المناوشات العسكرية عن إصابة جندي فلبيني. وقد تحول هذا البحر من منطقة هادئة لا يكاد يرد ذكر لها في وسائل الإعلام، إلى أخطر بقعة جغرافية في العالم؛ فمن جهة تعمل الصين على توسيع نفوذها في هذا البحر، عبر إنشاء العديد من الجزر الصناعية التابعة لها، بينما تدّعي الولايات المتحدة أنها تسعى عبر إرسال سفنها الحربية إلى تلك البقعة لضمان حرية الملاحة، لكن لا يخفى على أحد طبيعة الصراع بين القطبين، الصيني والأمريكي، والذي ابتدأ منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن إثر نجاح الصين في تحقيق تنمية اقتصادية كبيرة.
فقد رأت الولايات المتحدة أن استمرار تقدم الصين سوف يخصم من رصيد نفوذها، وهيمنتها على العالم، بخاصة أن من يمسك بعصب الاقتصاد يمسك بكل شيء، ما سيؤدي إلى نهاية امبراطورية الدولار، وأفول شمس الغرب. ولذلك بدأت الولايات المتحدة برسم استراتيجية دولية جديدة قائمة على مفهوم (التوجه شرقاً)، بهدف محاصرة الصين، واحتوائها، وإبقائها دائرة في فلكها. وقد تزامن ذلك مع إعلان الصين أن بحر الصين الجنوبي هو جزء لا يتجزأ من سيادتها الوطنية، ما فتح أعين الولايات المتحدة، والدول الإقليمية، على هذا البحر وعلى، الجزر الموجودة فيه.
فقد رفضت الولايات المتحدة القرار الصيني بخصوص ذلك البحر، وأعلنت أنها ستدافع عن حق الملاحة فيه، وصارت تسيّر سفناً تجوب مياه البحر شرقاً، وغرباً، وشجعت الدول المشاطئة للبحر وهي، فيتنام وماليزيا وإندونيسيا، والفلبين، للمطالبة بالجزر القريبة منها. وتستند الصين في موقفها بملكية البحر والجزر الموجودة فيه، إلى خريطة نشرت في جمهورية الصين عام 1947 تحت عنوان (خطة القطاعات التسعة)، والتي تجعل 85 في المئة من بحر الصين الجنوبي جزءاً من السيادة الصينية. ولم تعترض الولايات المتحدة، ولا غيرها من الدول، آنذاك، على هذه الخريطة لأن جمهورية الصين كانت حليفة للولايات المتحدة، ضد المد الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي. وبعد الانتصار الشيوعي، وقيام جمهورية الصين الشعبية على كامل البر الصيني انكفأت جمهورية الصين إلى تايوان، وأصبحت الصين الشعبية، بحكم الواقع، تمثل الشعب الصيني، وأعطي لها، في مرحلة لاحقة، المقعد الدائم في مجلس الأمن، وتم سحب الشرعية الدولية من جمهورية الصين التي تمثلها تايوان.
وكانت الصين الشعبية قد نشرت قبل عشر سنوات خريطة القطاعات التسعة، آنفة الذكر. وأضافت إليها قطاعاً عاشراً إلى الشرق من جزيرة تايوان، ما وسّع النطاق إلى بحر الصين الشرقي. وأكملت مشروعها لتأكيد حقوقها في البحرين، الجنوبي والشرقي، من خلال الاهتمام بالجزر، وتنميتها وإقامة جزر أخرى اصطناعية إلى جوارها. وتمثل سلسلة جزر (سبارتلي) نقطة خلاف بين الصين والفلبين، وهي تتألف من 7500 جزيرة وشعاب مرجانية، وتقع على بعد نحو 230 كيلومتراً من الفلبين، ونحو 650 كيلومتراً من الصين.
وتقدمت الفلبين بدعوى إلى محكمة التحكيم الدستورية في لاهاي، بموجب ميثاق الأمم المتحدة حول قانون البحار تطعن فيها بالادعاءات الصينية حول الجزر والشعاب المرجانية الأخرى، لكن الصين قاطعت جلسات المحكمة، ورفضت القرار. ورغم ذلك، فقد ظلت الفلبين تتحاشى استفزاز الصين بسبب العلاقات الاقتصادية التي تربطها بها، غير أن فوز فرديناند ماركوس بالانتخابات عام 2022 أدى إلى تغيير الواقع؛ فقد تقارب هذا الرئيس مع الولايات المتحدة، وعزز تعاون بلاده العسكري معها، ومع دول أخرى في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، مثل الهند واليابان.
وترتبط الفلبين باتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، منذ عام 1951، وفي مايو/ أيار الماضي، أجرت الدولتان مناورات مشتركة تحت عنوان (كتفا بكتف)، بمشاركة الآف الجنود من الدولتين. وتركزت هذه المناورات في الأجزاء الشمالية والغربية من الفلبين، في بحر الصين الجنوبي، قرب مواقع متنازع عليها مع الصين. وتميزت هذه المناورات بأنها تجاوزت، لأول مرة، البحر الإقليمي التابع للفلبين، والذي يبلغ طوله 12 ميلاً بحرياً في بحر الصين الجنوبي، ما شكل تحدياً مباشراً للصين. وقد علقت وزارة الخارجية الصينية على هذه المناورات متهمة الولايات المتحدة بتأجيج النزاعات في المنطقة، ودعت الفلبين إلى التوقف عن الانزلاق في الطريق الخطأ.
ولا شك في أن النزاع بين الفلبين والصين مرشح للتحول إلى حرب ساخنة، لن تكون الولايات المتحدة بعيدة عنها، بل ستكون في قلبها، ما سيفتح أبواب الجحيم على مصراعيها في مختلف بقاع شرق، وجنوب شرق العالم.
التعليقات