تجري رياح التقلبات الدولية، بما لا يشتهي قادة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلى وقع اضطرابات سياسية وأمنية حادة، ها هم يعقدون في واشنطن قمة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يواجه مصيراً انتخابياً مجهولاً أمام خصمه الجمهوري دونالد ترامب المناوئ دوماً للحلف «الذي عفا عليه الزمن»، وربما ستحاول هذه القمة، وضع خطط استباقية للتعامل مع عودته المحتملة إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل.

بلغ الحلف الغربي من العمر ثلاثة أرباع القرن، واتسع في العقدين الماضيين، ليضم 32 بلداً مستفيداً من انهيار الاتحاد السوفييتي، وتهافت دول أوروبا الشرقية المنفلتة من الحقبة الشيوعية، لكن هذا الحلف لم يصبح أقوى كما يدّعي ممثلوه، فزيادة عدد أعضائه حملت تناقضات عدة وسياسات متضاربة، وبعضها لم يعد يرى في الانتماء إلى هذا الحلف شرفاً أصيلاً أو مجداً لا يزول. ومثلما حاولت قيادة «الناتو» التذرع بالهجوم الروسي على أوكرانيا، لتستقطب فنلندا والسويد، تحاول أيضاً تجنب أن ينفجر الحلف من داخله، بسبب التحولات السياسية العاصفة في أوروبا، وتغير المزاج الأمريكي تجاهه إذا عاد ترامب رئيساً، فقد توعد هذا الكابوس لخصومه مراراً بإعادة النظر في بنية الحلف وتمويله ودوره مستقبلاً، وليس مستبعداً أن يتخذ بعض القرارات الصادمة، ربما تضع هذا الحلف المتعدد الجنسيات على سكة التفكك.

مثلما لم يكن أحد يصدق أواسط القرن الماضي أن ينهار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو الذي يقوده، حصل ذلك خلال بضع سنين قبل أكثر من 30 عاماً. ومن لا يصدق اليوم أن ينهار حلف شمال الأطلسي، باعتباره الأقوى عسكرياً، ربما تفاجئه التقلبات خلال فترة قليلة بتحولات مروعة، كأن تفشل جهوده في لجم التقدم الروسي في أوكرانيا، أو أن تتضارب المصالح السياسية لأعضائه، ولن يقتصر الخطر عليه من الولايات المتحدة، فقط، بل إن نخباً سياسية، من أقصى اليسار ومن اليمين المتطرف، أصبح لها حضور في المشهد السياسي الأوروبي، لا تؤمن كثيراً بهذا الحلف، وتنظر إليه على أنه أداة أمريكية للهيمنة وضبط المعسكر الغربي، وفق ما تفرضه مصالح واشنطن وأهدافها في ردع القوى المناوئة لها، وأهمها روسيا والصين.

آخر قمة لحلف الأطلسي يحضرها بايدن، المشكوك في جدارته بقيادة الولايات المتحدة، ناهيك عن الحلفاء، ستكرر نفس المواقف المتصلة باستمرار دعم أوكرانيا والتصدي للأيديولوجيات المناوئة للحلف من داخله، والاستمرار في تعزيز الشراكات العالمية، خصوصاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن ذلك لن يحجب حالة عدم اليقين في المستقبل، والتباين في مواجهة الأزمات المستجدة، والتعامل مع الخصوم. فقد دفعت التحولات الجيوسياسية في السنوات الأخيرة بعض الأعضاء إلى الارتباط بعلاقات حيوية مع موسكو أو بكين أمتن من تلك الموجودة مع واشنطن. ولا يحسب بقاء الحلف وقوته بتعداد أعضائه، وإنما أيضاً باحتساب قوة الخصوم وقدرتهم على التكتل، وبناء سياسات مناهضة، والتوازنات الاقتصادية الناشئة، ونظرية تعدد الأقطاب، وإذا لم يتواءم الحلف مع هذه التحولات ويستوعبها، فسيواجه في المستقبل القريب عواصف لا حد لها، وقد يصبح مجرد فصل في التاريخ، وتتحول منشآته إلى آثار، ومقراته إلى مزارات سياحية، تماماً كما فعلت تركيا مع قاعدة سابقة للحلف على ساحل البحر الأسود.