دخلت دول الغرب ومنها بريطانيا في عبثية الانتخابات، ففي كل دورة انتخابية تقدم الأحزاب المتنافسة برامجها الإصلاحية والإنمائية، لكنها عندما تصل إلى الحكم، وتتولى زمام الأمور يظهر فشلها وعجزها عن تقديم الحلول للمشاكل الموجودة، والعبرة ليست في إجراء الانتخابات، ولا في كفاءة المرشحين؛ بل في كيفية تحقيق الإصلاح، والوفاء بالوعود للخروج من ذلك المهوى الذي وقعت فيه تلك الدول وهو العجز الاقتصادي.
لقد شكل الاستعمار في الماضي رافعة لغالبية دول الغرب في تحقيق ثروات كبيرة من جراء النهب وفرض العبودية على الشعوب الضعيفة في العالم. أمّا اليوم فليس هناك سوى الصناعة والزراعة والإنتاج لرفد الخزينة بموارد جديدة، ودولة الرفاه التي شهدها غرب أوروبا في أواخر القرن الماضي قد تلاشت اليوم وسط ركام هائل من أخطاء الماضي، واستنزاف كبير للموارد. وليست بريطانيا أفضل حالاً من غيرها من دول الجوار، فهي تعاني عجزاً اقتصادياً بلغ في مايو(أيار) 2023 وفق مكتب الإحصاء الوطني، 2,23 تريليون جنيه إسترليني، وبما يعادل مئة وواحد في المئة من الناتج المحلي. وفقدت الأحزاب السياسية القدرة على تقديم برامج إصلاح اقتصادي، وما يدلل على ذلك هو أن حزب المحافظين الذي له تاريخ في قيادة الحياة السياسية قد تحول إلى حزب هزيل حيث تناوب على رئاسة حكومته أربعة من زعمائه في فترة زمنية قصيرة هم: تيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تروس ومن ثم ريشي سوناك الذي جاء أخيراً لا من أجل تقديم رؤية اقتصادية جديدة؛ بل من أجل تدبير الأمور فيما بقي من عمر تلك الحكومة.
وقد جاءت الانتخابات البرلمانية التي جرت في 4 يوليو(تموز) لتكشف عن الواقع السياسي المتردي في دولة بلغت قمة المجد السياسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل أن تتراجع وتنكمش على حالها اليوم. فقد حصل حزب العمال بزعامة المحامي السابق كير ستارمر على410 مقاعد في البرلمان الجديد، وحصل حزب المحافظين الذي يمثل يمين الوسط على 131 مقعداً، وهو أقل ب 234 مقعداً عمّا حصل عليه في الانتخابات الأخيرة عام 2019, وبذلك يكون حزب العمال قد حصل على أغلبية كبيرة في البرلمان. ورغم أن حزب الديمقراطيين الليبراليين قد جاء في المركز الثالث بمقدار 61 مقعداَ، لكن المفاجأة كانت أن حزب الإصلاح اليميني المتطرف بقيادة نايجل فاراج الذي كان وراء استفتاء (بريكست) قد حاز 13 مقعداً، وهو رقم يوحي بأن الخط اليميني المتطرف يتنامى في بريطانيا.
وقد جاء اليسار ببرنامجه السياسي والاقتصادي تحت شعار (وقت التغيير)، وليس المقصود بذلك تغيير السياسات القائمة والمجيء بأخرى جديدة بديلة، بل يعني الشعار نهاية عصر حزب المحافظين الذي حكم لمدة أربع عشرة سنة. لكن اليسار لا يحمل برنامجاً جديداً مختلفاً، بل سوف يسير على نفس النهج تجاه الملفات الدولية التي لها تأثير كبير على حركة الاقتصاد الدولي والمحلّي، ولا سيما ما يتعلق بملف روسيا، والموقف من أوكرانيا.
وستجد حكومة العمال الجديدة نفسها عما قريب تتخبط في الوحول، ولن يكون بمقدورها المجيء بحل سحري لواقع الشعب البريطاني، فلن تنجح في أمر فشلت فيه الحكومة التي سبقتها، ما قد يعجل في سقوطها، وإجراء انتخابات جديدة.
لقد أدركت شعوب كثيرة داخل الاتحاد الأوروبي أن السياسات الرسمية الحالية المتبعة غير مجدية؛ بل إنها تفاقم من حجم الأزمات الاقتصادية التي تعانيها مختلف دول ذلك الاتحاد، ولذلك تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية التي جرت مؤخراً، ونجح اليمين المتطرف في تشكيل حكومة في هولندا.
إن بريطانيا التي ظلت تقف على حافة الاتحاد الأوروبي، ولم تندمج بشكل فعلي فيه، هي اليوم مأزومة بمثل أزمات ذلك الاتحاد، بل هي تقبع تحت وطأة كساد اقتصادي يتفاقم، وما يجري اليوم يشابه إلى حد بعيد مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما دخلت الدول المنتصرة في الحرب الأولى، ومنها بريطانيا في حالة كساد اقتصادي كان السبب في اشتعال الحرب الثانية، وكان سبب ذلك الكساد هو صعود اليابان من جهة، وانبعاث ألمانيا من جديد خلال الفترة النازية، حيث تعقدت السياسة واستفحلت الأزمات الاقتصادية، وقد أنهت الحرب ذلك الكساد وأدت إلى ظهور قوى دولية جديدة، هي الولايات المتحدة في الغرب والاتحاد السوفييتي في الشرق.
واليوم عاد الكساد الاقتصادي في العالم من جرّاء ظهور الصين كقطب دولي جديد وصعود روسيا الجديدة بمواردها خاصة من الطاقة، وسوف تستمر حالة الكساد حتى تنتهي بأحد أمرين: اندلاع حرب عالمية كبرى، أو جنوح الدول المختلفة نحو تسوية تنهي حالة الخلاف وتعيد ترتيب العالم وفق سياسات متفق عليها ترضي جميع الأطراف، ويبدو أن خيار الحرب هو المطروح حتى الآن، لكن الحرب ليست قدراً، وأيّة دولة لا يمكن أن تحتمل تكاليفها بسبب خطورة الأسلحة الموجودة، وتكاليفها الاقتصادية والإنسانية الباهظة.
التعليقات