ما لكَ مذهولاً؟ قال القلم: البارحة، رأيت شيئاً عجباً. كنت في الدرب أسير، فإذا بامرأة حيّت وقالت: هل عرفتَ العربية؟ قلت: أهلاً، قد عرفناها، وهل يخفى القمر؟ غيّرتكِ الأيام شيئاً قليلاً، إنما للحسن آثارٌ مدى الدهر تدوم. وكذاك الجمالُ تبقى شهودُهْ.
قلت: ويحكَ، دعني من الخليل وأوزانه، وهاتِ قل لي كيف كان اللقاء، وما الذي أدهشكَ فأنعشكَ أو أوحشك؟ قال: سألتُها العونَ على الفهم، فإني لم أعد قادراً على استيعاب ما جرى لها وعليها، وقلتُ لها: خذي بيدي، فأخذتْ يدي، فركبنا قطار آلة الزمن، وقبل أن يرتدّ إلينا الطرْف، توقّف عند محطة الجاهلية، ونزلنا فقادتني إلى منتدى خيمة كبيرة، قاب قوسٍ واحدةٍ، لا قوسين، من بطحاء سوق عكاظ، يلتقي فيها الشعراء ويتنادمون. تصبّب العرق حين أوصتني بألا أنبس ببنت لوحة مفاتيح قائلةً: «واللهِ لو بُحتَ بأيّ حرفٍ.. تكدّس الهجاءُ في الدروبِ»، وليتها قالته للمناهج، لكي تدرك هول المأساة، فما فائدة دراسة عرب زماننا لغتَهم ستّ عشرة سنةً من الابتدائية إلى الجامعة، إذا كان الواحد منهم تصطك ركبتاه ارتجافاً، لو فاه بكلمة أمام أهل الجاهلية، الذين لا يعرفون حالاً ولا مفعولاً؟
قلت: ومن أدراك بأنهم يجهلون، فالجاهلية غير مشتقة من نقيض العلم؟ قال: غامرتُ بمحاورتهم في أبيات كثيرة من أشعارهم وقصائد آخرين غيرهم. سألتهم عن أسباب تقديم الخبر عن المبتدأ، أو جُمل اعتراضية ثقيلة على السمع، وحذف الفاعل أو أداة النصب، وإعراب المتعجَّب منه وهل هم يرونه مفعولاً أم ماذا؟ فهاج المجلس وماج، ورأيت الشرر يتطاير من بعض العيون. صاح أحدهم باللغة: من هذا الأعجمي الألكن الذي جئتِ به أيتها الأمَة؟ قسماً، لولا ضيف لأعملتُ في عنقه هذا الإصليت المهنّد، وجعلت رقبته المبتدأ والردى الخبر، وكنت أنا الفاعل، ولكان الأمر مفعولاً. أتراكِ يا أمَة أتيتِ به ليستهزئ بلسان مضر وربيعة وتغلب وكلاب وكعب؟ أمَا سمع بتميمٍ التي إذا غضبت عليك: «حسبت الناس كلهمو غضابَا»؟ همستُ في أذنها: ألا هبّي لنمضيَ هاربينا.. وإلا سوف نُدفن إن بقينا. فجأةً أطلّ ضيوف كثر، فاغتنمنا الفرصة وتوارينا عن الأنظار. فتبسّمت ضاحكةً، قالت: أرأيتَ كيف أن ألسنة العرب كانت مستقيمةً بطبعها، وكانت للقبائل فصاحتها، بلا نحو أو صرف، وعندما ظهر النحاة عقّدوا الأمور بالقواعد، وها نحن نرى معاناة الشعوب العربية في النطق والكتابة السليمين. قلت: انظري، انظري، ها قد وصل القطار إلى محطة زماننا. الحمد لله على السلامة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستنتاجية: يعني أن النحاة أرادوا أن يكحّلوها، فماذا فعلوا؟
التعليقات