تتزايد الدعوات خلال الفترة الأخيرة إلى إيجاد قانون عالمي ملزم لجميع الدول يحدد أخلاقيات الذكاء الاصطناعي ويرسم الخطوط العريضة لاستخدام هذه التقنيات الحديثة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وأحدثت جدلاً واسعاً انقسم حوله المتابعون إلى فريقين، أحدهما أبدى حماساً منقطع النظير لما يمكن أن تحققة من فوائد عديدة للبشر في كافة جوانب حياتهم، فيما توجس الآخرون ريبة مما يمكن أن يحدث من تجاوزات سالبة وسوء استخدام التطبيقات. وبعيداً عن التأييد والرفض والتفاؤل والمخاوف، فقد أصبحت هذه التقنيات الحديثة واقعاً لا يمكن الفكاك منه بأي حال من الأحوال، لذلك انصرف التفكير إلى كيفية وضع ضوابط قانونية يمكن أن تنظم استخدامها بحيث تتم الاستفادة من مزاياها العديدة، وفي ذات الوقت تشكّل مظلة حماية تمنع التجاوزات وتوقف التغوّل على حقوق الإنسان الأساسية التي يمكن أن تتعرض للانتهاك بهذه التقنيات في عديد من الجوانب وفي مقدمتها الحق في الحياة نفسها. هذه التقنية الحديثة التي بدأ استخدامها في المجالات الأمنية والطبية والزراعية وكثير من معينات الحياة هي نفسها التي تستخدم في التدمير والفناء إذا وقعت في الأيدي الخطأ، وعندها لن يستطيع إنسان أن يتخيل السيناريوهات التي يمكن أن تحدث، لا سيما إذا تم التوجيه الخطأ لما يُسمى «الروبوتات القاتلة» التي يتوقع أن يبدأ استخدامها في معارك ميدانية في غضون أعوام قليلة. ومما يبعث على الفخر أن المملكة العربية السعودية كانت كعادتها سباقة في هذا المجال، حيث أكدت الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (292) وتاريخ 27/4/1441 في الفقـرة (1) مـن المـادة «الرابعـة» بـأن للهيئـة علـى وجـه خـاص تنظيـم قطاعـات البيانـات والـذكاء الاصطناعـي، ومتابعـة الالتـزام بهـا؛ وفقـاً للأحـكام النظاميـة ذات الصلـة، وانطلاقـاً مـن التـزام المملكـة بحقـوق الإنسـان وقيمهـا الثقافيـة، وتماشـياً مـع المعاييـر والتوصيـات الدوليـة بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وبهذه الموجهات الواضحة فقد أكدت السعودية تمسكها بتعزيز نموذج الذكاء الاصطناعي الذي يركز على الإنسان الذي يمكن الوثوق به لضمان مستوى عالٍ من الحماية للصحة والسلامة والحقوق الأساسية المنصوص عليها في العهود والمواثيق الدولية الذي يراعي ويتقيد بسيادة القانون وحماية البيئة. كما أعلنت بكل وضوح وشفافية حرصها على الحماية من الآثار الضارة لأنظمة الذكاء الاصطناعي ودعم الابتكار. هذه الموجهات السعودية الواضحة وهذا التقنين الذي لا لبس فيه يمكن أن يشكل صفحة جديدة في تاريخ البشرية في ما يتعلق بهذه التقنيات والأنظمة الحديثة التي اقتحمت حياتنا فعليا وباتت تؤثر على كافة تفاصيلها، فإذا ما اقتدت بها بقية دول العالم بدقة ودون انتقائية فإن ذلك يمكن أن يشكل أرضية صلبة تقضي على كافة المخاوف والهواجس التي تعتري كثيرين، وتصبح نبراسا تقتدي به بقية دول العالم لصياغة تشريعات مماثلة وقد يصبح بمثابة مسودة عالمية تتبناها الأمم المتحدة ويتم إقرارها كوثيقة دولية ملزمة. ومما يزيد من أهمية هذا التقنين السعودي أنه يهدف في الأساس إلى ضمان سلامة وأمن البشرية مع استخدام هذه الأنظمة، ويضمن الحماية الكاملة للحقوق الأساسية، ويعزز الابتكار، بما يجعل المملكة كعادتها رائدة على مستوى العالم ويجدّد سبقه لكافة الدول. وبعد عدة سنوات من هذا السبق السعودي الذي انطلق من قناعات داخلية خاصة وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني والعشرين من مارس الماضي بالإجماع على قرار يهدف إلى تشجيع حماية البيانات الشخصية وحقوق الإنسان ومراقبة المخاطر، وهو ما يعكس وحدة الموقف الدولي وتصميمه على توجيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي نحو الصالح العام للإنسانية، كما يسلّط هذا الإحماع النادر الضوء على التوجّه العالمي لإقرار مجموعة أساسية من المبادئ التي توجّه تطوره المتسارع. خلال الأيام الماضية قطع البرلمان الأوروبي خطوة تاريخية لافتة بإصداره قانون الذكاء الاصطناعي لدول الاتحاد، وهو ما يمثل إنجازاً تشريعياً بالغ الأهمية لتنظيم استخدام هذه الأنظمة في جميع الدول الأعضاء. وتكمن أهمية القانون في أنه يضمن حرية حركة السلع والخدمات القائمة على الذكاء الاصطناعي عبر الحدود، ويمنع الدول الأعضاء من فرض قيود على تطوير وتسويق واستخدام هذه الأنظمة الحديثة، إلا في حالات معينة كأن تكون موجهة ضد المصالح الإنسانية، وتطوير معايير عالمية لسلامة وأمن هذه الأنظمة. لذلك فإن هذا الموقف يعتبر خطوة هائلة إلى الأمام في الاستخدام المسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يسهم في حشد الدعم العالمي للمبادئ التي ستحكم تطوير الأنظمة وتطبيقاتها. كما يكتسب القانون الذي لن يكون محصوراً في أوروبا فقط، وسيشمل الشركات كافة في جميع أنحاء العالم التي تمارس أعمالاً تجارية في الكتلة الأوروبية أهمية خاصة من خلال حرصه على تعزيز حقوق الإنسان، فهو يحظر كثيراً من التقنيات التي تنتهك هذه الحقوق، بما في ذلك المراقبة البيومترية، والشرطة التنبؤية، وما يسمى «التعرف على المشاعر»، وأنظمة التعرف على الوجه غير المستهدفة. وكذلك يمنح الأولوية للممارسات المسؤولة والواضحة والأخلاقية التي تدعم العدالة والشفافية والمساءلة بما يتضمن اتخاذ تدابير صارمة لضمان خصوصية البيانات ومعالجة التحيزات المحتملة وقضايا التمييز التي قد تنشأ. إضافة لأهمية مراعاة الأخلاق والقيم الإنسانية في كل خطوة من خطوات عملية التطوير. المطلوب الآن هو إنزال هذه التفاهمات على أرض الواقع وفرض قيود مشددة لتطبيقها بعدالة ودون انتقائية، وعندها فقط سنضمن سلامتنا، ولا نخشى من ممارسات طائشة يقوم بها البعض بدافع الغرور العلمي أو الرغبة في السيطرة والهيمنة.