فاطمة المزروعي

تعتبر الأسرة واحدة من أهم وأقدم المؤسسات الاجتماعية في تاريخ البشرية قاطبة، بل تعد واحدة من أكثر تلك المؤسسات تأثيراً في مسيرة الإنسان طوال تاريخه، ولا يمكن أن تتصور مجتمعاً متماسكاً قوياً، نشيطاً، ذا حيوية وتعليم، دون مؤسسة الأسرة القوية المتماسكة، ومن هنا نعلم السبب وراء دعم الأسرة الذي نشاهده في مختلف أرجاء العالم، حيث تنصب الجهود لدعمها وحمايتها، لأن الأسرة وهيكلها المعروف الذي يترأسه الأب والأم، ثم الأطفال، تأخذ على عاتقها مهمة حيوية ومهمة جداً، تتعلق بتعليم وتثقيف وتنمية معارف هؤلاء الأطفال، فإن تم تنميتهم في بيئة أسرية سليمة فإنه دون شك سنجد أجيالاً من الأطفال السليمين نفسياً وذهنياً وأيضاً القادرين على التعلم والتأثير الإيجابي في كيان المجتمع كلل.

لا يمكن تصور الحياة البشرية دون الأسرة، دون الأب والأم، وهما يقومان بوظيفتهما الأزلية تجاه أطفالهما.

وعند القول إن الأسرة ككيان اجتماعي مؤسسي تعتبر الأقدم في تاريخ الإنسان، فإن المقولة لا تجانب الصواب، بل تعتبر معلومة مشاعة أو متفقاً على صحتها من جيل إلى آخر، فهي أي الأسرة منبع الطفولة، ومن خلالها تنمو المبادئ والقيم وفيها توجد الأفكار والتطلعات والآمال، ولا يمكن أن نلاحظ أن الطفولة تنمو بشكل طبيعي دون وجود الأجواء الأسرية الدافئة المحملة بالحنان والشفقة والعطف.

هذه المؤسسة المهمة جداً لكل إنسان، والمهمة أيضاً للمستقبل وللأجيال القادمة، تواجه تحديات جساماً في هذا العصر، ولعل أهم تحدٍ تواجهه يتمثل في أهم خطوة وقفزة تقفزها البشرية نحو التطور، وتتمثل في شبكة المعلومات العالمية الإنترنت، وتحديداً مواقع التواصل الاجتماعي، والتحدي لن يتوقف، حيث تشهد هذه المواقع تطورات كبيرة في المحتوى وفي طريقة التفاعل معها.

مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها وتباينها باتت تتصدر اهتمامات الناس، وأخذت مساحة واسعة من تفكير الإنسان اليومي، وغني عن القول إنها دخلت لعمق منازلنا، وأصبح لها دور في تشكل الوقت واللحظات التي نمضيها، والمشكلة الأهم أن هذه التطبيقات التي نتفاعل بموادها وما يبث فيها أخذت زمام المبادرة بعيداً عن الأم والأب، وبات الطفل يجد المعلومة بشكل عشوائي من أي إنسان آخر، وهذا الغريب قد يطرح آراء غير صحيحة ويغلفها بأنها تربوية، ويتلقاها اليافع بالقبول ويطبقها في حياته، وهكذا نلاحظ أن دور الأم والأب بدأ في الاضمحلال أو الغياب أمام مواجهة قوية من مواقع التواصل الاجتماعي، وأمام زخم هائل من المعلومات، التي تتدفق يومياً دون توقف، وبات ما يقدمه الأب والأم بلا قيمة أو ضعيفاً أمام المحتوى الذي يشاهده الطفل في كل لحظة من يومه.

ودون شك فإن مثل هذه الحالة جعلت للأسرة دوراً هامشياً، أو ضعيفاً، ولكم أن تتخيلوا أن طفلاً يجد ويجتهد في مدرسته، وبسبب الرسائل التي يتلقاها من مثل هذه المواقع يبدأ في الإهمال، بل في رفض مواصلة الدراسة، لأن هناك من يقول له إن الدراسة إضاعة للوقت، وإنه غير متعلم وهو الآن يملك الكثير من المال، أكثر من زملائه الذين أكملوا دراستهم ثم حصلوا على وظائف متواضعة، أو نصائح تقدم للفتيات والشباب ممن هم في مقتبل العمر، في كيفية التعامل مع شريك الحياة، حيث يغلب على تلك النصائح السطحية والتعالي ورفض القيام بالواجبات الاجتماعية البديهية.

ولا ننسى أن هناك انشغالاً من البعض من الآباء والأمهات بمثل هذه المواقع، وابتعاداً واضحاً عن دورهم في رعاية أسرهم وأطفالهم، فهم يمضون على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الوقت، فلا يبقى لديهم الطاقة ولا النفسية الملائمة للجلوس مع أطفالهم وتوجيههم ونصحهم ولسماع شكاواهم وآمالهم ومخاوفهم. وهذه الحالة ليست موجودة في بلد أو مجتمع ما، بل هي تكاد تكون ظاهرة عالمية بشرية عامة، لا يخلو مجتمع منها، وهي حالة توضح المدى الذي بلغته الأسرة من الضعف أمام موجات التغير التي حملتها شبكة الإنترنت للبشرية.

وهي حالة استدعت الكثير من الدارسين والمؤلفين والفاعلين للتحدث عنها، مثل المؤلف والكاتب الأمريكي جون جي ميلر، الذي قال: «نحن بحاجة إلى إعادة المسؤولية الشخصية إلى الأسرة!». ومثل أحد رواد التنمية البشرية المؤلف والمتحدث منعرج زيجلار، الذي قال: «إن جعل الأسرة أولوية قصوى سيؤدي دائماً إلى النجاح». وغيرهم الكثير.

نحن في حاجة ماسة لدراسات اجتماعية، تلم بكافة جوانب هذه القضية، ثم جهد مجتمعي حكومي، لمعالجة الاهتزازات التي تعانيها الأسر، وثقافة توعوية توجه نحو كل أم وأب، بالتنبيه بالدور الحيوي ووظيفتهم في البناء الاجتماعي السليم، نحن بحاجة لقوانين وحماية حقيقية لدور الأسرة في مجتمعاتنا البشرية، وتحرك للفاعلين لتنبيه وتوعية الناس بالمخاطر الجسيمة لأي خلل وضعف قد تتعرض له الأسرة.