للأخبار الزائفة تاريخ طويل مع الحروب والصراعات وأعمال العنف، وفي إحدى صفحات هذا التاريخ ستبرز عبارات تفيد بأن المعلومات المُضلّلة كانت أداة من أدوات القتال في عديد الأحيان، ووسيلة لإشعال أعمال العنف والاضطرابات في معظمها.
لا يتعلّق هذا التقييم بالبيئة الاتصالية المُعقّدة التي تسود راهناً، ولكنه يتعلّق أيضاً ببيئات اتصالية كانت أكثر بساطة وأقل تعقيداً، فقد وجد الباحثون الذين درسوا تاريخ الحروب والنزاعات والاضطرابات وأعمال العنف، أن الأخبار الزائفة أو «الشائعات» كانت أحد عوامل إشعال تلك الأحداث، أو أحد مسوّغات توسعها وامتدادها.
وربما يمكن القول إنه لم تكن هناك إرادة لخوض قتال، أو إشعال فتنة، أو إذكاء اضطراب، من دون إسهام واضح من الأخبار الزائفة، التي كان عليها تهيئة البيئة النفسية اللازمة لفقدان الأمل في الحل، أو الذهاب إلى أقصى أفق للمواجهة، بما يضمن إدامة النزاعات وتأجيجها.
ومن بين القصص الأكثر دلالة في هذا الصدد، قصة انخراط الصين في الحرب العالمية الأولى، التي يبدو أنها لم تكن لتحدث بيسر من دون استخدام حاذق لخبر زائف. إذ يعتقد الدكتور ديفيد كلارك، من جامعة «شيفيلد هالام» البريطانية، الذي بحث في القصص التي خدعت العالم على مدى قرن من الزمان، أن خبراً «زائفاً» نُشر في الصحف البريطانية في عام 1915، لينتقل سريعاً إلى الصحافة الصينية التي نشرته بوصفه خبراً «دقيقاً»، هيّأ الرأي العام في الصين لقبول فكرة خوض الحرب العالمية الأولى، ويسّر للقادة الصينيين اتخاذ هذا القرار الصعب، في حين كانت المعارك تدور على بُعد آلاف الأميال في قلب أوروبا.
قد بدأت تلك القصة المثيرة حين نشرت بعض الصحف المغمورة في بريطانيا أخباراً مُختلقة عن وجود «مصنع غليسرين» في ألمانيا يستخدم جثث الجنود الموتى لاستخراج هذه المادة المطلوبة في المصانع الألمانية. وسرعان ما تلقفت صحف كبرى ومرموقة هذا الخبر، وأعادت نشره بوصفه حقيقة، لتنقله الصحف الصينية، ويعلّق عليه مسؤولون صينيون بوصفه «ممارسة إجرامية شائنة»؛ وهو الأمر الذي لاقى استهجاناً واسعاً وبلور مشاعر الغضب تجاه ألمانيا، بما سهّل إعلان الحرب عليها لاحقاً.
ولدينا في العالم العربي عديد القصص التي لعبت فيها الأخبار الزائفة أدواراً محورية في اندلاع أعمال العنف والفتن أو حتى إشعال «الانتفاضات». وقد توصّل باحثون درسوا الأحداث التي عُرفت في المنظور الغربي بـ«الربيع العربي»، خلال العقد الفائت، إلى دلائل قوية على استخدام البنية الاتصالية السائدة في عمليات تعبئة وتحشيد، بغرض إثارة الاضطرابات والاحتجاجات وحتى الاقتتال الأهلي، اعتماداً على الأخبار الزائفة.
سيكون لكل بلد من بلدان «التغيير العربي» المضروبة بتلك الانتفاضات قصة أو أكثر مع الأخبار الزائفة، التي ثبت أن لها قدرة كبيرة على الانتشار والتأثير، عبر «الشبكات الاجتماعية» ومنصّات «الإنترنت» الرائجة.
وكما فعلنا نحن في العالم العربي، حين ركّزنا أنظارنا على أصحاب المصلحة في إشاعة تلك الأخبار الزائفة، وصولاً إلى تحقيق أغراض الانتفاض والاحتجاج والاقتتال الأهلي، فإن البريطانيين يفعلون الأمر نفسه الآن. إذ يولون اهتماماً كبيراً لمحاولة ربط الاحتجاجات وأعمال العنف التي اندلعت أخيراً في مناطق من البلاد، بالجانب الروسي، عوضاً عن الانتباه إلى هشاشة البنية الاتصالية السائدة نفسها، وتحليل قابليتها الكبيرة للتلاعب.
يبدو أن وسائل إعلام وساسة ومراكز بحوث بريطانية وغربية عديدة تجتهد الآن لإثبات أن السبب في أحداث العنف الأخيرة التي اندلعت في شمال غربي بريطانيا تعود إلى خبر زائف، ربط بين قتل ثلاث فتيات ومهاجر مسلم، عوضاً عن حقيقة أن المشتبه فيه الأساسي مولود في كارديف، لأبوين من رواندا. والأهم من ذلك، أن تلك الجهود تفترض أن موقعاً يشتبه في أن أصله روسي يقف وراء هذا الخبر الزائف، الذي يُحمّل المسؤولية شبه الكاملة عن تلك الأحداث النادرة التي لم تحدث منذ أكثر من عقد من الزمان.
وفي ظل غياب الصوت الروسي عن التعليق على تلك الاتهامات، لا يوجد ما يكفي لنفي هذه الصلة على أي حال، لكن الأسئلة مع ذلك تبقى صالحة للطرح فيما يخصّ مسؤولية البنية الاتصالية الراهنة، وقابليتها الكبيرة لكي تحوّل خبراً زائفاً مفرداً إلى رافعة لأكبر وأخطر عمليات عنف أهلي تشهدها دولة مثل بريطانيا منذ 13 عاماً.
إن البنية الاتصالية التي يعتمدها العالم راهناً تتّسم بقدر كبير من التفاعلية والإتاحة والنفاذ، في وقت تغيب فيه عمليات الضبط والمراجعة، أو تتضاءل مفاعيلها، في حين يظل الجمهور بعيداً عن مقتضيات «التربية الإعلامية»، التي يمكن أن تحدّ من الاحتمالات الكارثية، وهنا يكمن الخطر الأكبر.
التعليقات