لديك ميزانية ضخمة وتريد أن تستثمر في الإعلام. سألتَني نصيحتي. قلت: «الإجابة بسيطة». المؤسسات النظامية تتمتَّع بمزايا لا غنى عنها: ثقل العلامة التجارية، وجاذبيتها لأفضل الكفاءات، وتعامل الجمهور معها بجدية، وقدرتها على الوصول إلى مصادر معتبرة، واستضافة ذوي حيثية.

دارت الأيام، نجحت مؤسستك وتوفرت لك ميزانية جديدة. هاتفتني تسألني السؤال نفسه. لكنني لم أجب الإجابة نفسها. سألتُك عن الكواليس خلف هذا النجاح، عن المعوقات التي تواجهك، ولماذا تستشيرني مرة أخرى بدل تكرار التجربة؟

ذكرت لي التكلفة العالية للضروريات مثل المقر والتجهيزات وأعمال الصيانة والتطوير والموظفين وسعر البث الهوائي، التي تجعل ما تنفقه على الإنتاج الفعلي جزءاً ضئيلاً. المشكلة أنه كلما تضخمت الميزانية، ووجب الترشيد، ما استطعت الاقتراب من هذه البنود، فتختزل من ميزانية استضافة ضيوف، أو إرسال مراسلين إلى مواقع الأحداث. وهي توابل الإعلام التي تعطي هذه الوليمة طعمها. قلتَ إن الجمود حتمي في المؤسسة الكبيرة، لأن البيروقراطية حتمية، وإلا انفلتت الأمور وأصابك الهدر في الميزانية. وإنك مهما أوليتَ من جهد، وثني ومد، لمعالجة هذا الجمود فأقصى ما تنجزه خشونةٌ في الحركة.

والتوظيف، صداع صداع. تتحرى أفضل العناصر ثم على أرض الواقع تكتشف نقاط ضعفها. هذا لا يجيد العمل مع فريق، وذلك يمرر رسائل مؤدلجة، وتلك تفتقد الدافع. ثم إن استبدال هذه العناصر مهمة محبطة، تجعلك تضطر في أحيانٍ كثيرة إلى تحمل تبعات بقائها. وهكذا تتكلس شرايين المؤسسة. وتحجزُ العناصرُ السيئةُ العناصرَ الجيدة. ذكّرتني بمؤسسات بدأت قوية ثم تراجَعَتْ أو عجزت عن المواكبة. وقلت إنك الآن تفهم السبب.

ذكّرتني أيضاً بعصر ما قبل السوشيال ميديا، كيف ارتبط الناس بأسماء المؤسسات، وتقبلوها بمجموع ما تقدمه، كما تقبلوا الصحيفة التي أحبوا فيها كاتبين أو ثلاثة. أما الآن فكل برنامج مفرد له ألف منافس، وما أسهل أن يتحول المشاهدون عنك إلى غيرك. يمكن أيضاً، في عصر الخوارزميات، لبرامج تكلفتْ ثروة أن تخرج أقل من توقعاتك الجماهيرية. المؤسسة الكبيرة لن تستطيع استبدال هذه البرامج بسهولة. عقَّبْتَ: «صِيغت المواقيتُ ورُسِمَت الخُطَط».

قلتَ لي إن السوشيال ميديا فرضت قواعد جديدة. في المؤسسة الكبيرة إن خصصنا للبرنامج ساعة فهي الدقائق الستون لا تزيد ولا تنقص، أكان الضيف مسلياً أم كان مملاً. ترك الجمهورَ عطشانَ إلى مزيدٍ أم تركه متخماً بالزَبَد؟

قلتُ لك إنني أفهم هذه النقطة جيداً. في الشركات الصغيرة نتلاعب في وقت البرنامج كعازف في أكورديون. ليس لدينا «أمر جارٍ» يحكمنا، ولا جدول بث يقيدنا. أحياناً يفاجئنا الجمهور بالإعجاب بمقطعٍ لولا فسحة الوقت لتخلصنا منه، لكن الجمهور يعزله ويتداوله ويحوله إلى ميم، فيعيش وإن ماتت الحلقة.

قاطعتني قائلاً إنني أُقَلِّب عليك المواجع، فهذه الشركات الصغيرة نفسها مشكلة، لا يفهم حجمها إلا من يدير مؤسسة في هذا الزمن. كلنا نستخدم تعبير «الحرب الإعلامية»، ونحن نصف المواجهة الشرسة مع محاور رؤوسُ حَرْبتِها ميليشياتٌ وجماعاتٌ إعلامية. المؤسسة الإعلامية النظامية في هذه الحرب تخوض مواجهةً غير متكافئة، كجيش يخوض حرب عصابات. وضَرَبْتَ لي من الواقع أمثلة.

المؤسسة النظامية مقيدة بالقانون، في حين الميليشيات الإعلامية تراوغه. المؤسسة النظامية لا تستطيع أن تصف شخصاً بأنه ينتمي إلى «تنظيم» ما لم يقل هو ذلك، وإلا لاحقها بالقانون الفرنسي أو البريطاني وهو يعلم أن الحقيقة في صفها، لكن القانون في صفه. الميليشيات الإعلامية التابعة للتنظيم نفسه تزينه وتجمله وتصفه بأوصاف محايدة وسمعة مصطنعة جيدة، ثم تنقل تصريحاته إلى أفرادها في مؤسسات كبرى. عملية «غسل إعلام» لا يجرمها القانون كما يجرم «غسل الأموال».

ناهيك بالحساسيات السياسية، وهذا أصعب من القانون. قلتَ، ونبرة كلامك تنقل ابتسامتك، إن قناة الضفيرة لن تهاجمك، التزاماً بتعهد سياسي، لكنها تقطع لك من طرف الضفيرة خصلة. كل شعرة منسولة منها ستلتف حول عنقك، وتدخل في ثنايا الأخبار إلى حلقك. في كلتا الحالتين ستقف بمؤسستك النظامية عاجزاً، لا تستطيع أن تفتح فمَك إلا مُتَأوِّهاً. هنا قلتُ لك إنك لم تُرِد استشارتي إذن. أردتَ فقط شخصاً تفضفض إليه بأفكارك. لقد أجبتَ يا صديقي عن سؤالك، وقررتَ قرارك.

مشروعك الجديد وحداتٌ إعلامية صغيرة، أقل تكلفة، وأكثر مرونة. تراوغ القانون مع مراوغيه، وتضرب النذل بما يوجعه ويبكيه. الإعلام المؤسسي مدفعية ثقيلة، وهذا جيد في نواحٍ. والإعلام الخفيف مُسَيّرات متنقلة، وهذا جيد في نواحٍ. الذكاءُ، كيف تسد بها الثغرات التي أدركتها وحددتها. المدير الفني الجيد يقرأ المباراة على أرض الملعب، ويغير التكتيك بما يطرأ. والمدير الفني المحدود يعبد الخطط السابقة ويعجز عن تجديدها.