يتعاظم مجدداً في لبنان وغيره من البلدان بالصوت العالي والمنخفض، مبارزات حول الفيدرالية والكونفدرالية والخرائط المسحوبة من الأدراج بحثاً عن التسويات والسلام وفقاً لخرائط قديمة، لكنها تنسحب وكأنها اليتيمة. ليست مساحة لبنان قطعة طيّعة فوق الطاولات وفي الأذهان، كان هذا التوجه استراتيجياً سبق الحرب الباردة ومنه تزاحمت الدول الكبرى لاقتسام العالم المثخن بالتنافس والتوازن والحروب واستمرارية الصراعات تتجدّد حول المسائل المعقّدة. يخيّم هذا الاختلال مجدداً عبر استراتيجيات النفوذ الدولي بين أمريكا وروسيا والصين والهند والقوى الكبرى بما يخلّف تعقيدات في مفاهيم القيادة الدولية الجديدة فتتوسّع خرائط تحدياتها وتتغير ترسيماتها خلال عصر العولمة والانفتاح.لنفكّر لبنانيين ونُقرّ بمنطق التاريخ المرّ وتحت لحظ إمارات العرب الزاهية والمنخرطة بذكاء الحضارات المعاصرة وحتى بالمنظومات الدقيقة لكشف المجرّات والكواكب في الفضاء بعدما رسونا طويلاً بوجه الأعباء السياسية والمخاطر الثقيلة والحروب العظيمة بانتظار الاستقرار العام وكدنا نفقد كنوزنا الأثرية والثرية والفكرية بحثاً في التفاهم والترقي.يتضاعف البحث المشروع لأجيالنا عن غريزة الاستقرار رفضاً للحروب والنزاعات المتجدّدة بين طوائفنا في لبنان بلا حدود أو بين بلد عربي وآخر. لو حدّقنا اليوم بموضوعية في عيني الغرب لصدمتنا الخطايا المتراكمة المقيمة بخفّةٍ في عقل العالم المعاصر حول المغالاة في فهم المسافات الشاسعة بين قيم الدين والإرهاب والخرائب. لنقل، إن معظم أجيالنا باتوا كونيين أثقلتهم أعباء التحريض والحروب في التواريخ الوطنية والأوسطية والعالمية. يخجلون فلا يتباهون، إذ تظهر بعض أوطاننا وشعوبنا عصيّة أوغير قابلة للانخراط في شبكات العصر الذكية والمكشوفة للجميع فوق سطح الأرض لتُسقط تراكمات الرفض والتدمير والعبث بالأسود والأحمر، لكأن التاريخ يجب أن يبقى مشلولاً في السجون الفكرية التي كابدها أجدادنا وحالت الدنيا سياجاً حيال نقد الفكر الجامد غير المتحول.عن أيّ عالمٍ أكتب؟أقصوصة ضرورية:أخبرني وزير داخلية لبناني مخضرم: «إن حواراً دار في عام 1982، إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في مركز ضبية الذي اختارته إسرائيل آنذاك مقراً لقيادتها شمالي العاصمة بيروت، بين ضابطين لبناني وإسرائيلي يتكلّم اللغة العربية بطلاقة وباللهجة الفلسطينية، اعترف بأن إسرائيل أخطأت عندما اعتمدت بعض استراتيجيات السلام عبر اتفاقيات منفردة لأنها أورثتها الأثقال الهائلة لا الفشل. وأفصح الضابط الإسرائيلي بأن دولته ستبقى مشغولة باستراتيجية الجهود المضنية ومحاولات تحقيق السلام مع باقي الشعوب العربية وفقاً لخطين متلازمين: أولهما التطبيع الصعب بهدف تنعيم النتوءات التاريخية الشديدة الصلابة من ناحية، وثانيهما خلق الحروب الداخلية الطائفية والمذهبية وتذكيتها إن اقتضى التاريخ توليداً لأفكار التجزئة والتقسيم من ناحية أخرى باعتبار أن تلك المحاولات ستورث قطعاً تحوّلات الإنضاج الهادئ للتوجهات الشعبية العامة التي لربما تُليّن القناعات الموروثة وتُزيح الأقنعة الرسوبية السميكة عبر ردود الأفعال السريعة والثابتة التي سكنتها واستقرت في الوجدان الشعبي العام على تناقضاته الفكرية والسياسية والطائفية».لنفكر بالتواريخ الدموية، بل بالمسافات الوعرة الشاسعة والمثقلة سياسياً بالمحاذير حيال الأصوات العالية والمواقف السياسية المطالبة بالتسويات والسلام درءاً للصراعات الدموية الهائلة والمتواصلة. ستقفز بنا الذاكرة نحو الرئيس المصري محمد أنور السادات ومبادرته السلمية التي أربكت الكثير فاغتيل تاركاً خلفه النوافذ الفولاذية لمبادرات جزئية في أوسلو وأريحا واتفاقيات محكومة بالصراعات ووجهات النظر المتنابذة الشديدة التعقيد.حملت تلك الهوامش، أولاً، ملامح التسويات التي أورثت الكثير من التداعيات والتشققات العربية بعدما كُسر «التابو»، وهي، كما اتّضح بالتجربة، لم تُفضِ إلى الاستقرار. يمكننا القول ثانياً، إن المعضلة كانت أسيرة الإعاقات حيال التسويات والسلام، وحصدت نتائجها قلقاً شعبياً وحروباً رعتها السياسات الكبرى والإقليمية بقفازات الدبلوماسيات مع الضغوط الهائلة.يسألوننا اليوم: ماذا بعد غزة؟بانتظار الخارج، كل الخارج، ونعيش الداخل والخارج، وأمامنا لبنان والسودان والمطالبات بالفيدراليات والتقسيمات والتسويات. لبنان باقٍ كما نعرف ويعرف العرب والعالم أنه «أصغر من أن يقسّم وأكبر من أن يبلع»، يكابد أهله تشظيات النفوذ وتوزيع المناصب والمكاتب والطوائف والمذاهب. قد يجاهرون بعظمة الاستقرار النسبي مقارنة مع المشغولين بالطموح لتقسيم السلطات والنفوذ بعدما أُجهضت فكرة احتساب العددية في المراكز العلية.هكذا تنصبّ الأفكار بين من يُذكّرنا باستقرارنا كوننا كنّا سباقين في سبحة الحروب العربية عبر جنوبٍ افتقد سياجه الوطني رسمياً واجتاحته الكوارث بما يتجاوز طاقات أهله، بينما المعروف عالمياً أن وراء استقرارنا كلمة توافق دولية عربية مؤجلة بانتظار تطبيق القرار الدولي رقم 1701 ريثما يخرج لبنان العالق رسمياً مشلولاً في المصعد المعطّل والحرائق من حوله.عمّ يسأل اللبنانيون؟بعد سقوط البرجين في عام 2001، وقعت الحرب الاستباقية في 2003 على العراق وامتدت نحو الأرجاء. ليس سوى الحوار أقصر الطرق نحو تقشيش كرسي الرئاسات والسلطات المتشظية حتى ولو خففنا من صلابة التعثر بالقوانين والدساتير والرغبات الحزبية والطائفية.لقد اختصر لبنان مُقيماً في قسمات وجه إمارات الخليج العربي عبر أولادنا وأحفادنا المسكونين قطعاً بهواجس استقرارنا ومستقبلنا وتنقية ألسنتنا وأفكارنا ونفوسنا حتى تنقشع الحرائق.
- آخر تحديث :
التعليقات