أزراج عمر

تحاول وسائل الإعلام الجزائرية، في هذه الفترة التي تشهد تواصل الحملات الانتخابية للمترشحين الثلاثة وهم، الرئيس الحالي عبد المجيد تبون ورئيس حزب حركة مجتمع السلم عبد العالي حساني والأمين العام لحزب القوى الاشتراكية يوسف أوشيش، إثارة قضية اتفاقية 1968 بين فرنسا والجزائر، وترى أنّها لم تعُد ذات قيمة فعلية، رغم إصرار اليمين الفرنسي المصاب برهاب الأجانب على إلغائها، بحجّة أنّ الهجرة الجزائرية تشكّل بشكل خاص خطراً على المجتمع الفرنسي.

يرى محللون سياسيون جزائريون، أنّ هذا الخطاب الإعلامي يشير إلى تغيير الإعلام الجزائري موقفه القديم الذي كان يتّهم اليمين الفرنسي بأن سعيه لإلغاء هذه الاتفاقية يمثل تهديداً لمصالح الجزائر بشكل عام، ولحقوق الجالية الوطنية بشكل خاص، وتراجعاً دراماتيكياً عن وعود فرنسا باحترام الاتّفاقيات والمعاهدات الموقّعة بين البلدين.

وفي هذا السياق، ينبغي التذكير بأنّ مواقف وسائل الإعلام الجزائرية كانت في الماضي القريب لا تختلف في لهجتها عن مواقف السلطات الجزائرية التي كانت ولا تزال تنتقد السلوك الفرنسي تجاه الجزائر، وبخاصة تباطؤ فرنسا في الاعتراف بجرائمها الاستعمارية في الجزائر من عام 1830 إلى عام 1962، وعرقلة عمليات التفاوض من أجل إيجاد الحلول التوافقية العادلة للمشكلات التي تحوط بملف "الذاكرة التاريخيّة"، وفي المقدّمة مسألة إعادة أرشيف الجزائر، وتنظيف المناطق التي أجرى فيها الجيش الفرنسي تجاربه النووية في الصحراء الجزائرية، فضلاً عن دفع مستحقات المتضررين من هذه التجارب المحرّمة دولياً، وغيرها من القضايا العالقة.

وفي هذا السياق، يبرز هذا السؤال: لماذا لم تشهد الحملات الانتخابية الرئاسية الجزائرية في هذه الأيام السجال المطلوب في شكل ندوات ومناظرات ولقاءات، من تنشيط المترشحين الثلاثة مع المواطنين في مختلف المحافظات (الولايات) حول هذه القضية المركزية المركّبة، علما أنّ قضية اتفاقية 1968 ليست بسيطة، بل تمسّ حياة ملايين المهاجرين الجزائريين الذين يلعبون دوراً مهمّاً في إنعاش الاقتصاد الوطني الجزائري. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه القضية تدخل في صميم ضبط واستشراف معالم السياسات الخارجية الجزائرية، وفي صلبها العلاقة مع فرنسا.

ويبدو للمراقب السياسي، أنّ قضايا الهجرة واتفاقية 1968 لم تُناقش من طرف كل مترشح على حدة، وعلى نحو يساعد، مثلاً، في جسّ نبض الرأي العام الوطني الجزائري بخصوصها، ومعرفة موقفه منها، قبل توجّه الناخبين بالملايين إلى صناديق الاقتراع.

والحال، فإن السبّب وراء تقليل بعض وسائل الإعلام الجزائرية من أهمية اتفاقية 1968، الموقّعة من طرف كلّ من السلطات الجزائرية ونظيرتها الفرنسية، يلخّصه محلّل سياسي جزائري متخصّص في تحليل ونقد القضايا ذات الصلة بالعلاقات الجزائرية - الفرنسية وهو محمد مسلم في جريدة "الشروق اليومي" التابعة للقطاع الخاص، والتي تعكس في كثير من مواقفها وتحليلاتها وجهات نظر السلطات الرسمية الجزائرية.

ففي خصوص التطبيقات الفرنسية لبنود اتفاقية 1968، كتب هذا المحلّل السياسي موضحاً أنّ الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية أكّدت "أنّ عدد الجزائريين الذين حصلوا على تصاريح الإقامة في فرنسا خلال عامي 2022 و2023 تراجع بشكل لافت، فيما ارتفع عدد التصاريح الممنوحة لرعايا دولة مجاورة، وذلك رغم أنّها لا تربطها بفرنسا اتفاقية خاصة على غرار اتفاقية 1968 مع الجزائر". ثم يضيف هذا المحلّل السياسي مبرزاً أنّ تراجع التصاريح الممنوحة للجزائريين باستمرار مقارنة ببعض الدول في المنطقة المغاربية التي تمنحها فرنسا عدداً أكبر من التصاريح، أمر يدعو "إلى التساؤل حول جدوى استمرار العمل باتفاقية 1968 المتعلّقة بالهجرة، والتي حاول اليمين المتطرّف الفرنسي تغليط الرأي العام بأنها في صالح الجزائر، مطالباً بمراجعتها أو إلغائها من جانب واحد، في حال رفض الطرف الجزائري التجاوب مع المطالب الفرنسية".

وفي الواقع، إن مضامين اتفاقية 1968 تنصّ على مجموعة من الإجراءات، منها السماح للجزائريين بتأسيس مؤسسات في صيغة شركات، وبممارسة المهن الحرّة، فضلاً عن الاستفادة من الإقامة التي يدوم مفعولها رسمياً مدة 10 سنوات، وبعد ذلك يمكن صاحبها أن يحصل على الإقامة الدائمة أو يطلب الجنسية الفرنسية بحسب مقتضيات القانون الفرنسي.

إضافة إلى ما تقدّم، فإن محلّلاً سياسياً جزائرياً آخر، هو حكيم بوغرارة، صرّح لفضائية أميركية بما معناه، أن أحد بنود اتفاقية 1968 "ينصّ على دخول 35 ألف عامل جزائري إلى فرنسا لمدة ثلاث سنوات". غير أنّ هذا البند لم يعد قائماً إلّا في حال وجود رغبة لدى مؤسسات العمل والسلطات الفرنسية معاً.

وفي هذا الصدد، نلفت إلى مقال نشرته وكالة "فرانس برس" وترجمه إلى العربية حميد العربي، وهذا بعض ما ورد فيه: "في نهاية 1985، عشية انتخابات عسيرة وفي سياق ارتفاع البطالة، ألغى رئيس الوزراء الفرنسي لوران فابيوس المادة الأولى (المتضمنة قبول 35 ألف عامل كل سنة) والمادة الثانية (حول الإقامة لمدة 9 أشهر للعثور على عمل) للاتفاقية، وتمّت إعادة كتابة النص بشكل تقييدي أكثر، ثم تلاها تعديلان آخران في عامي 1994 و2001. وتمّ حذف جزء ’الدخول‘ من الاتفاقية وبقي جزء ’الإقامة‘ ساري المفعول جزئيّاً. بعد ذلك بسنة، تمّ فرض التأشيرة التي أصبحت مفتاح دخول الأجانب إلى فرنسا".

ويُلاحظ أيضاً أنّ اليمين الفرنسي يرفض جزءاً آخر من هذه الاتفاقية الجزائرية - الفرنسية، وبخاصة ما يتعلّق منها بالمعاملات التي تُدعى بالاستثنائية، والتي تمنح الجزائريين الحاصلين على الإقامة في فرنسا الحقّ في الاستفادة من صيغة "لمّ شمل الأسرة".