بدأت بمطالعة الروايات عندما كنت لا أزال في العاشرة من عمري، وبعد مرور كل هذه السنوات أعتقد أني قرأت المئات، لا، بل الآلاف منها، وأعدت قراءة بعضها، وأجريت بحوثاً حولها ودرّستها. ويسعني القول، من غير مباهاة، إن هذه الخبرة أكسبتني القدرة على تصنيف الروايات بين جيدة وسيئة ورديئة، لكنها أيضاً غالباً ما حرمتني متعة المطالعة؛ إذ ما أن أبدأ بقراءة رواية حتى أتبيّن مواضع الخلل فيها، والشوائب التي لا يرصدها القارئ البريء (القارئ – الأنثى كما كان يسميه كورتاثار) ويتسنى له بذلك أن يتمتع أكثر من القارئ الناقد بالسرد الأدبي.

أسوق هذا التمهيد بعد أن أمضيت أسابيع عدة تحطمت خلالها كل دفاعاتي النقدية بفعل القوة المدمرة التي تحملها رواية «ألفية» Millenium لمؤلفها ستيغ لارسن، بأجزائها الثلاثة التي تقع في أكثر من ألفي صفحة، والتي غمرتني بسعادة لا توصف، واستعدت معها ذلك الشوق الذي كنا نشعر به مراهقين عندما كنا نطالع سلسلة «الفرسان الثلاثة» التي وضعها ألكسندر دوما، أو روايات ديكنز وفيكتور هوغو، متسائلين في نهاية كل صفحة: والآن، ماذا سيحدث؟، ومتوجسين الاقتراب من خاتمة الحكاية ونهاية المتعة. هل من دليل أوضح من ذلك على أن الرواية ستبقى دائماً دون مرتبة الكمال التي يمكن للشعر وحده أن يبلغها؟ وأنها، رغم بعض الشوائب، قد تكون رواية استثنائية. أعتقد أن ملايين القراء في العالم قد شعروا، أو يشعرون الآن، بالأسف لكون مؤلف هذه الثلاثية الرائعة الكاتب السويدي ستيغ لارسن قد وافته المنيّة قبل أن يقطف ثمار النجاح الباهر الذي حققه هذا الإنجاز الأدبي الرائع. وأكرر، من غير خجل، السرد الروائي الرائع تشوبه نواقص كثيرة، ربما يعود بعضها للترجمة من اللغة السويدية، والبنية فيها قدر لا يستهان به من الركاكة، لكن رغم ذلك تطغى حبكة الرواية وشخصياتها الساحرة التي تفاجئ القارئ باستمرار، على العيوب التقنية، وتدفعه إلى متابعتها جذلاً ومتشوقاً للمزيد من المغامرات والمكائد والبطولات والمفاجآت في هذه السردية الحافلة بالأشرار التي يكتب النصر للأبرار في نهايتها.

كاتبة الروايات البوليسية دونّا ليون تجنّت على Millenium عندما قالت إنها نشيد الشر والظلم. فادح مثل هذا الخطأ؛ لأن هذه الثلاثية تندرج بشكل مباشر ضمن التقاليد الأدبية الغربية القديمة التي تناصر العدل والمساواة، مثل آماديس وتيرنت ودون كيخوته، بواسطة شخصيات تبادر إلى الدفاع عن الحق ضد الظلم عندما تفشل المؤسسات في منع التجاوزات والمآسي في المجتمع. مثل هذه الشخصيات تتجسد في الرواية بواسطة إليزابيث سالاندير ومايكل بلومفيست. وجديد الثلاثية الذي هو أيضاً سر نجاحها الأكبر، هو أن لارسن خرج عن المألوف عندما جعل من شخصية الأنثى الأكثر نشاطاً، وجرأة وفطنة في هذه الرواية، وترك لمايكل، الصحافي الوسيم، دوراً ثانوياً بارزاً كونه مدافعاً عن الحقيقة ومتشبثاً بالقيم والمبادئ العليا.

أي مصير كان ينتظر السويد من غير إليزابيث سالاندر القرصان السيبرانية اللطيفة؟! هذا البلد الذي توافقنا على تصنيفه الأقرب إلى مثل التقدم والديمقراطية والعدالة والمساواة بين بلدان العالم، يظهر لنا في هذه الثلاثية ضاحيةً من جهنم، يعبث فيه القضاة الفاسدون، والأطباء النفسانيون الذين يمتهنون تعذيب المرضى، ورجال الشرطة والجواسيس الذين يرتكبون أبشع الجرائم، والسياسيون المنافقون، والمؤسسات التي تبدو وكأنها وقعت فريسة جائحة فساد بلا حدود أو ضوابط. ومن حسن الطالع أن ثمّة فتاة نحيلة وصغيرة القامة، يكسو الوشم جسدها وترتدي رثّ الثياب، سلاحها الوحيد حاسوب تفتح به كل الأبواب المغلقة وصولاً إلى الحقيقة، وتتصدى للمجرمين والفاسقين والأشرار بحزم وجرأة، وقسوة تخفي وراءها سهولاً من الحنان ونظافة الكف والرغبة الوطيدة في إحقاق العدالة. كثيرة هي الشخصيات النسائية البارزة في الرواية؛ إذ إن هذا العالم الذي ما زالت النساء تتعرض فيه للإهانة والإساءة، ازداد عدد اللواتي، مثل إليزابيث، حققن المساواة والتفوق، ويندفعن بجرأة كبيرة وروح إصلاحية ليست شائعة عند الذكور الميّالين عادة إلى التغاضي والخروج عن القانون. من هذه الشخصيات مونيكا فيغيروا، الشرطية الرياضية، ورئيسة تحرير مجلة «ألفية» اريكا بيرغر الأنيقة والرصينة في سلوكها وتصرفاتها وإدارتها للصحافيين الذين توزّع عليهم مهام التحقيقات والتصدي للأقوياء، وأيضاً سوزان ليندير الشرطية والملاكمة التي استقالت من وظيفتها وتفرغت لمكافحة الإجرام من موقعها مديرةً لإحدى الشركات الأمنية الخاصة.

تدور أحداث الثلاثية في أجواء وعوالم مختلفة، وتتنقل بين كبار الأثرياء والمغامرين والقضاة والصناعيين والمصرفيين والمحامين والشرطيين. لكن عالم الصحافة هو الذي يبدع الكاتب في توصيفه؛ وذلك بفضل معرفته العميقة به محرراً سابقاً. «ألفيّة» مجلة شهرية، مكاتبها صغيرة وضيقة، ولا يتجاوز عدد العاملين فيها أصابع اليد الواحدة. لكن القراء يتهافتون عليها، ويتعاطفون مع محرريها الذين تحدوهم قناعة عميقة بالمبادئ، ولا يخشون مواجهة الأعداء الأقوياء ويجازفون بحياتهم عند الاقتضاء، ويحرصون بشغف وموهبة على إعطاء القارئ معلومات موثوقة تحمل الأمل في أنه، مهما كانت الظروف والعوائق، ثمة وسيلة إعلامية دائماً تبقى عصيّة على الفساد والتهديد، وتحاول باستمرار التحقق من الأخبار التي تنشرها منزّهة عن الشكوك والتلفيق.

لو توقفنا مليّاً عند هذه القصة التي ترويها ثلاثية لارسن، وأخضعناها لتحليل دقيق وهادئ، لا بد من التساؤل كيف استطاع الكاتب أن يجمع ويرتّب هذه الأحداث الغريبة والمصادفات السينمائية والوقائع الاستثنائية في مثل هذا النص الطويل والمشوّق؟ أعتقد أن سر هذا الإنجاز يكمن في مهارة الكاتب عند مقاربة كل التفاصيل الواقعية، والعناوين، والأماكن والمشاهد التي تحيل القارئ إلى مواقع معروفة ومألوفة. ولأنه، من بداية الرواية، يحدد مجموعة من قواعد اللعبة التي لا يخرج عنها: الاستثنائي هو العادي في عالم Millenium، والغريب هو المألوف، والمستحيل هو الممكن.

وعلى غرار الروايات الكبرى التي تحكي مغامرات الشخصيات البطولية في الأدب العالمي، تستدرجنا هذه الثلاثية إلى الاعتقاد بأن ثمة أملاً لا يزال في هذا العالم، بفضل شخصيات دون كيخوته تدافع عن الضحية وتنتقم لها وتعوّض الضرر وتعاقب الأشرار. إليزابيث سالاندر، على الرحب والسعة في عالم الخيال الخالد.