محمد خالد الأزعر

من أجل طمأنة نتانياهو لبقائه رئيساً لوزراء حكومة إسرائيلية طارئة، في حال أبرم صفقة تهدئة مع حماس، تعهد له معسكر المعارضة بزعامة يائير لبيد بتشكيل شبكة أمان نيابية، تحول بين عتاة المتطرفين وبين إسقاط هذه الحكومة في الكنيست. رأى المعارضون أن إنقاذ الرهائن الإسرائيليين، أو ما بقي منهم حياً، أعز عندهم من إزاحة نتانياهو، رغم بغضهم لسياساته ومواقفه.

لكن الأخير رفض التجاوب مع هذا العرض السخي من خصوم الداخل.. تماماً مثلما عكف على تفجير كل مبادرات التهدئة التي قدمها وسطاء الخارج، بما في ذلك الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي والداعم الأكبر لدولته.

مشكلة نتانياهو مع قضية التهدئة، لا تكمن فقط في جمود السياسات والمواقف البالغة التشدد، والحرص على الحلول العسكرية لاستعادة الرهائن التي يتبناها بعض وزراء ونواب اليمين المتطرف، من نوعية سموتريتش وبن غفير.. إنما تقع العلة هنا أيضاً وأساساً، في عقلية الرجل وقناعاته وانحيازاته الشخصية، العاطفة على، والمتفقة مع، تفضيلات هذه القوى وخطاباتهم.. وخلاصتها محاولة استئصال الكينونة الفلسطينية، سياسياً وإن أمكن سكانياً.

والأهم، من ناحية أخرى أكثر عمقاً أنه يضع عينه على ظهيره وظهير أنصاره الأيديولوجي والسياسي الشعبي، المكون من كتلة المستوطنين والحريديم (المتشددين الدينيين).

لا تشكل هذه الكتلة مجرد نتوء محدود التأثير في الاجتماع السياسي الإسرائيلي، بل هي قوة وازنة يحسب لها حساب. تقول إحصاءات العام 2023 إن عدد مستوطني الضفة والقدس يبلغ نحو 670 ألفاً، ينتشرون في 176 مستوطنة كاملة الأوصاف و186 بؤرة استيطانية بازغة (عدا 25 ألف مستوطن في الجولان المحتل).. هذا في حين يراوح عدد الحريديم، وفيهم نسبة من المستوطنين، حول 1.3 مليون نسمة.. وهذه أرقام ستثبت بيانات 2024 حين صدورها، أنها حظيت بطفرة من الزيادة والتكاثر.

نتانياهو، والحال كذلك، يقف على قاعدة أو أرضية انتخابية صلبة، مضمونة الجاهزية والحضور لأنه منها وهي منه، يتحرك عليها ويدور في فلكها ما لا يقل عن خُمس يهود الدولة.. وهذا يغنيه لحد كبير عن انتظار الدعم المؤقت الذي يتفضل به الخصوم.

من الواضح أن هذه الكتلة اكتسبت نفوذها وسطوتها من نموها العددي وانتشارها اللوجستي، اللذين برزا بوتيرة قياسية في العقدين الأخيرين.. وكان من العوامل المهمة في هذا العلو الظاهر، الموارد الهائلة التي وفرها، ولا يزال، المدد المالي والسياسي الخارجي الذي تتولاه منظمات خارجية، صهيونية يهودية وغير يهودية، ينشط معظمها في عالم الغرب.. لكن العامل الأكثر حسما بهذا الصدد، يتعلق بالرعاية والحماية التي أسبغها عليها عهد الحكم الممتد للصقر الأكبر، نتانياهو.. وصولاً إلى السماح بتسليح الكثيرين من عناصرها، وإطلاق أيديهم للتصرف بلا حساب أو عقاب، ضد كل رموز الوجود الفلسطيني في الضفة والقدس.. وذلك تحت سمع وبصر المؤسسات الرسمية المعنية، بما فيها الجيش والشرطة والأمن الداخلي (الشين بيت) والقضاء.. موجز هذا السيناريو، أن نتانياهو أوفى بمطالب مزيج المستوطنين والحريديم الأيديولوجية والسياسية، وكان بمثابة وكيلهم والمدافع الأول عن مصالحهم وأهوائهم وسلوكياتهم المنحرفة.. ثم إنه راح لاحقاً يحصد نتاج غرسه ويتكئ عليه ويتبادل معه المنفعة والاعتمادية.

على أن نتانياهو وهو يوغل في تسمين هؤلاء الحلفاء وتعزيز شوكتهم، ربما غفل عن حقائق وتداعيات بالغة التأثير في قوام دولته من الأصل.. منها، بلا حصر، احتمال إفلات الزمام من يده، لاسيما في ضوء تحول فئات منهم إلى ما يشبه الميليشيات المسلحة، الطليقة من أي عقال.. ولعله بحاجة لمن ينبهه إلى التضاد المنطقي بين الأمن والتطرف، وإلى من يذكره بنداءات التمرد على أوامر الدولة، بل ومواجهة قوات الجيش والشرطة بالعنف، التي سبق أن أعلنها بعض قادة المستوطنين، بين يدي عملية إجلائهم من غزة قبل عشرين عاماً.

هذا دون الاستطراد إلى كثير من نماذج رفع راية العصيان المماثلة، التي جرت بتحريض مباشر من بعض كبار الحاخامات، في أكثر من مناسبة، آخرها الصدامات العنيفة من جانب الحريديم، على خلفية التمرد على قرارات تجنيدهم في الجيش.

في غمرة نشوته بشهر العسل الممتد مع أنصاره من جماعات التطرف، وتلاقيه مع أفكارهم وتوجهاتهم، لا يعبأ نتانياهو بالتحذيرات المتوالية، من الداخل والخارج، حول خطأ الاعتماد على الحل العسكري وحده في حرب غزة.. وهو لا يلقي بالاً لما يعتمل ويتفاعل في أحشاء دولته، لاسيما لجهة تضخم قوة المسلحين من هؤلاء الأنصار، في مواجهة قطاعات أخرى ليست كلها من الفلسطينيين.. الأمر الذي قد يجعله يصحو يوماً على الاقتراب من كارثة الحرب الأهلية.