وصف دونالد ترمب، مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة، منافسته كامالا هاريس بالشيوعية، ولكن في الواقع، هاريس تتماشى مع فكرة الجماعية السياسية التي تعود إلى أفلاطون، وهو مذهب يتضمن الشيوعية كإحدى تنويعاته، بينما الولايات المتحدة كانت تاريخياً تميل إلى منطق عبادة الفرد.
* يُصوِّرُ أفلاطون، على الأقل في مؤلَّفه العظيم "الجمهورية"، المجتمع المثالي على أنه مجتمع يحكمه من هم أدرى الناس بمهام رعاية الشعب من المهد إلى اللحد. كل ما على الناس فعله هو طاعة القواعد والاستمتاع بالحياة الطيبة التي يقدمها الفلاسفة الحاكمون.
* أما أرسطو، على النقيض من ذلك، فيركّز على الفرد الذي هو، باستثناء عندما تتدخل الآلهة، سيّد مصيره.
* كان المستوطنون الذين أنشأوا الولايات المتحدة أقرب إلى منطق عبادة الفرد عند أرسطو منه إلى المدينة الفاضلة الجماعية عند أفلاطون. فقد جاؤوا إلى العالم الجديد كأفراد أو في مجموعات صغيرة جداً إلى درجة لا تستطيع فرض هوية جماعية على الآخرين. لقد كانوا مزارعين أصبحوا مستكشفين وروّاداً، وفي نهاية المطاف بناة أمة، وكانوا يعملون دائماً كأفراد ولا يجتمعون معاً إلا في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مثل محاربة الأعداء.
* في سيرته الذاتية المكوّنة من 780 صفحة، يسخر الرئيس باراك أوباما من النقاد الذين يشيرون إلى أنه قد يكون "اشتراكياً في الخفاء". ثم يكشف عن تعلُّقه بالجماعية، مشيداً بـ"الروح الجماعية، وهو أمر نتمناه جميعاً، وهو شعور بالترابط الذي يتجاوز خلافاتنا". وأضاف أن الدولة التنظيمية جعلت حياة الأميركيين أفضل بكثير - وهي كلمات تعيد إلى الأذهان تصريحات بينيتو موسوليني حول الدولة الجماعية الكبيرة التي تعيد توزيع ثمار المساعي الوطنية.
* وقد أشار المرشح الجمهوري للرئاسة ميت رومني ذات مرة إلى أن نصف الأميركيين تقريباً يعتمدون على الصدقات والامتيازات الفيدرالية بطريقة أو بأخرى، وبالتالي لن يصوتوا لمرشح يدافع عن دولة أصغر ومنطق عبادة الفرد كبطل.
* حسناً، لم يصوتوا له.
في واحدٍ من تلك الانفعالات التي يعرف بها، وصف دونالد ترمب، مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية، منافسته الديمقراطية، نائبة الرئيس كامالا هاريس، بـ "الشيوعية".
وبما أنني أشك في أنّ هاريس لديها أدنى فكرة عن الشيوعية، وهي أيديولوجية عفا عليها الزمن منذ عقود، أعتقد أن حامل لواء الحزب الجمهوري كان غير دقيقٍ في تقييمه هذا.
كان غير دقيق، لكنه لم يكن مخطئاً تماماً، بقدر ما أنّ البطلة الديمقراطية تتماهى ضمنياً مع مذهب سياسي يعود تاريخه إلى أفلاطون، وهو مذهب تُعدّ الشيوعية إحدى تنويعاته العديدة.
يسمّى هذا المذهب في الفلسفة السياسية بالجماعية.
يصوّر أفلاطون، على الأقل في مؤلفه العظيم "الجمهورية"، المجتمع المثالي على أنّه مجتمع يحكمه من هم أدرى الناس بمهام رعاية الشعب من المهد إلى اللحد. كلّ ما على الناس فعله هو طاعة القواعد والاستمتاع بالحياة الطيبة التي يقدمها الفلاسفة الحاكمون.
على النقيض من ذلك، يُركّز أرسطو على الفرد الذي هو، باستثناء عندما تتدخل الآلهة، سيد مصيره.
يتوخّى أرسطو الحذر من الجماهير والمجتمعات الكبيرة. وفي الواقع، يُعرب عن القلق من أنَّ المدينة التي يزيد عدد سكانها على 100 ألف نسمة قد تواجه مشكلات.
لقد كان المستوطنون الذين أنشأوا الولايات المتحدة أقرب إلى منطق عبادة الفرد عند أرسطو منه إلى المدينة الفاضلة الجماعية عند أفلاطون. فقد جاؤوا إلى العالم الجديد كأفراد أو في مجموعات صغيرة جداً إلى درجة لا تستطيع فرض هوية جماعية على الآخرين. لقد كانوا مزارعين أصبحوا رواد طريق ورائدين وفي نهاية المطاف بناة أمة، وكانوا يعملون دائماً كأفراد ولا يجتمعون معاً إلا في حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مثل محاربة الأعداء.
كانت هياكل الدولة التي أقامها الآباء المؤسسون تهدف أيضاً إلى التدخل في الظروف الاستثنائية.
فقد عمل اثنان من الرؤساء الخمسة الأوائل، جون آدامز وتوماس جيفرسون، سفراء على التوالي في بلاط سانت جيمس وفرساي، حيث كانت هوية الفرد تتلخص في كونه من رعايا الملك.
روَّج آدامز وجيفرسون، إلى جانب معظم بُناة الولايات المتحدة الأوائل الآخرين، لفكرة الحكومة الصغيرة. وحتى في ذلك الحين، أطلقوا عليها اسم "الإدارة"، وهو مصطلح محايد يستبعد الادعاءات المتعالية.
ومع ذلك، كان من المحتّم أنه في عالم الدول القومية ذات المركزية في ممارسة السلطة والأوهام الجماعية، لم تكن الولايات المتحدة حديثة النشأة لتبقى بمنأى عن أسلوب العمل السائد في جميع أنحاء العالم.
فقد سلَّطت سلسلة من الحروب مع بريطانيا والمكسيك والإمبراطورية الإسبانية الضوء على ضرورة العمل الجماعي في دولة لم يكن لديها حتى جيشٌ بشكل دائم.
كما أبرزت الحرب الأهلية الأميركية ضرورة العمل الجماعي للحفاظ على الاتحاد، ولكنها خلقت أيضاً عادات جماعية لن تتلاشى بمجرد انتهاء حالة الطوارئ.
تضمنت حملة ويليام جينينغز برايان ضد المعيار الذهبي، التي كانت مليئة بالبلاغة الخطابية حول مساعدة الفقراء وكبح جماح الأغنياء، أصداء خافتة ولكن مميَّزة للنزعة الجماعية.
وأدت الحاجة إلى حشد جيوش ضخمة خلال حربين عالميتين انتهتا بالنصر، إلى زيادة انتشار مفهوم الجماعية.
عزز انهيار سوق الأسهم في عام 1929 من جاذبية العمل الجماعي في حالات الطوارئ غير العسكرية. وكانت الصفقة الجديدة للرئيس فرانكلين روزفلت، المستوحاة من الاقتصاد الكينزي، أول عرض رئيسي للجماعية في السياسة الأميركية.
وبفضل نجاحه الواضح جزئياً، فقد كسر السد العقلي الذي أبقى الأفكار الجماعية خارج السياسة الأميركية باستثناء حالات الطوارئ.
وقد تعززت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية ودخول مفاهيم مثل دولة الرفاه، والديمقراطية الصناعية، والليبرالية (التي تعني في المعجم السياسي الأميركي الانتماء إلى اليسار)، والتقدمية، والسوق الاجتماعية، و"الطريق الثالث"، وحتى الاشتراكية إلى المجال السياسي الأميركي.
على رغم أنّ الأمر انتهى بالولايات المتحدة إلى وجود حزب شيوعي صغير فيها مع دائرة محدودة من المتعاطفين معه، خاصة بين النخب الأدبية والفنية، إلا أن الشيوعية لم تصبح قوة رئيسية في السياسة الأميركية.
وبما أنه من المفترض أن تنجح الشيوعية في المجتمعات الصناعية المتقدمة مثل الولايات المتحدة، تساءل لينين عن سبب عدم اكتراث أميركا برسالتها.
ويشير بعض المؤرخين إلى أن ذلك كان بسبب نجاح النخبة الأميركية في تصوير الشيوعية على أنها تهديد عسكري أمني أو حتى تهديد وجودي، وهو ما تجلى في مطاردة "الحُمر تحت السرير" في الخمسينيات من القرن الماضي بدلاً من أن تكون نظرة منافسة للعالم.
في اعتقادي أن الولايات المتحدة قد حُصِّنت ضد الجماعية الشيوعية بسبب المأساة التي امتدت لسبعة عقود في الاتحاد السوفياتي. فمن دون ذلك، ربما كانت للشيوعية فرصة أفضل في إغواء المزيد من الأميركيين.
في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وجدت أشكال أخرى من الجماعية، الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، معجبين في الولايات المتحدة، لكنها لم تكتسب قاعدة شعبية.
في الأدب، كان هناك كتّاب أميركيون مثل مارك توين، وهنري ديفيد ثورو، وجيمس فينيمور كوبر، وهيرمان ملفيل، وجاك لندن، اختاروا موضوع الفرد كبطل، بينما اتجه آخرون مثل سنكلير لويس، وجون شتاينبك، وجون دوس باسوس، وإرسكين كالدويل نحو الواقعية الاجتماعية.
أما في السياسة، فقد اتخذت الولايات المتحدة منعطفاً حاداً نحو الجماعية في عهد الرئيس ليندون جونسون، مع سمات مثل التمييز الإيجابي، والطائفية والحركة النسوية والتشدّق المبكر بالنزعة البيئية.
ثم انتقلنا سريعاً إلى خطاب الرئيس جون كينيدي "لا تسألوا..."، الذي صنَّف الفرد على أنه الشخص الذي يجب أن يفعل شيئاً من أجل البلد بدلاً من أن يسأل عما تفعله البلد من أجله.
وقد يُنظر إلى شعار الرئيس بيل كلينتون الانتخابي "إنه الاقتصاد يا أحمق!" على أنه إعادة صياغة لاعتقاد ماركس بأن الاقتصاد يوفّر البنية التحتية للمجتمع، بينما تمثل السياسة البنية الفوقية.
في سيرته الذاتية المكونة من 780 صفحة، يسخر الرئيس باراك أوباما من النقاد الذين يشيرون إلى أنه قد يكون "اشتراكياً في الخفاء".
ثم يكشف عن تعلّقه بالجماعية، مشيداً بـ"الروح الجماعية، وهو أمر نتمناه جميعاً، وهو شعور بالترابط الذي يتجاوز اختلافاتنا".
ويضيف أوباما أنّ الدولة التنظيمية جعلت حياة الأميركيين أفضل بكثير - وهي كلمات تعيد إلى الأذهان تصريحات بينيتو موسوليني عن الدولة الجماعية الكبيرة التي تعيد توزيع ثمار المساعي الوطنية.
قالت هيلاري كلينتون، خلال حملتها الرئاسية الأولى، في السياق الجماعي: "ما زلت أؤمن أن تربية الطفل تحتاج إلى قرية".
على مرّ العقود، فقدت العبادة الأميركية التقليدية للفرد كبطل الكثير من هالتها لتحلّ محلّها عبادة جديدة للضحية التي تستحق الاعتذار والتعويض.
وسواء أحبَّ ترمب ذلك أم لا، فإن المجازات الجماعية أصبحت الآن راسخة بعمق في السياسة الأميركية التي لها قواعد شعبية كبيرة، بخاصة بين الأقليات العرقية وملايين المهاجرين الجدد ومعظمهم من ما يسمى "العالم الثالث" حيث الدولة هي البعل العلماني الذي يقرر كل شيء.
وقد أشار المرشح الجمهوري للرئاسة ميت رومني ذات مرة إلى أن نصف الأميركيين تقريباً يعتمدون على الصدقات والامتيازات الفيدرالية بطريقة أو بأخرى، بالتالي لن يصوتوا لمرشح ينادي بدولة أصغر وعبادة الفرد كبطل.
حسناً، لم يصوّتوا له.
نُشرت هذه المقالة في الأصل في "الشرق الأوسط" وأعيد نشرها مع بعض التغييرات بإذنِ كريم من الكاتب.
التعليقات