ماذا سيكون رد فعل أي إنسان لو جاءت قوة كبيرة غاشمة وغريبة عنه، لغةً وديناً، واقتحمت مكانه وطالبته بتسجيل %10 أو %20 من مساحة ما يملك باسمها؟ الرد الطبيعي سيكون الرفض، وإن تم تهديده بالقتل، فسيقبل التقسيم مجبراً، مع احتفاظه بحقه في استرداد أرضه وبيته مستقبلاً، بأية طريقة كانت!

عرف الإسرائيليون مبكراً النفسية الفلسطينية جيداً، فغلّفوا ما قدموه من مقترحات سلام بشروط، تجعل قبولها من الطرف الآخر أمراً مستحيلاً. لذا كان القادة اليهود، منذ تقسيم فلسطين سنة 1947، يعوّلون على ردّة فعل العرب المنطقية برفض قرار التقسيم، والذهاب للحرب، وكانوا على علم تام بأن نتائج الحرب ستكون لمصلحتهم، فقد كانت العصابات الصهيونية تمثّل جيشاً حقيقياً، جيد التدريب والتسليح، مكوناً من مئة ألف، في حين أنّ عدد مقاتلي كل الجيوش العربية، التي شاركت في الحرب، والمهلهلة والفقيرة والفاقدة للقيادة الموحدة، أقل من أربعين ألف مقاتل، دافعهم الحمية والغيرة، وليس العقل والمنطق!

منذ تاريخ تأسيس إسرائيل إلى تاريخ تأسيس منظمة فتح، بعدها بعشرين عاماً، والتي مثلت أول مقاومة منظمة ومسلحة ضد إسرائيل، وبعدها بعشرين عاماً، وربما حتى اليوم، لم يستطع الفلسطينيون يوماً توحيد صفوهم، ولا توحيد سلاحهم، كما فشلوا في توحيد قيادتهم، وهذه كانت من كبريات خطاياهم، وهذا ما دفع البعض، بعض الإعلاميين و«المفكرين»، للتصريح والتلميح إلى أن على كل الفلسطينيين دفع ثمن أخطاء قياداتهم، والقبول بالشروط الإسرائيلية مهما كانت مجحفة ومهينة، وهذا يشبه موقف الكاثوليك من اليهود، طوال ألفي عام، عندما حمّلوا كل يهودي وزر دم المسيح، إلى أن جاء «بابا» عاقل، وخلّص «يهود اليوم» من تلك المسؤولية! وعليه، فإن «كل» الأخطاء التي ارتكبتها «كل» القيادات الفلسطينية، على مدى مئة عام، لا تبرر أبداً الوقوف مع الجانب الإسرائيلي ضد الحق الفلسطيني.

* * *

يقول «راباي»، لم أستطع التقاط اسمه، إن طائفة الإنجيليين، أو الإيفانجاليكالز Evangelicals الأكبر والأقوى والأكثر ثراء في أمريكا، هم في أغلبيتهم من الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل بقوة، ومن أكبر المتبرعين لها، ويعملون بجهد واضح لعودة جميع اليهود لأرض إسرائيل، التي وعدهم الله بها، ليؤسسوا دولتهم، ليس حباً في اليهود، بل للتحضير والتعجيل لمعركة هرمجدون أو أرماجيدون، التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس، سفر الرؤيا، والتي تُعتبر جزءاً من نبوءة نهاية العالم. فوفقاً للتقاليد المسيحية، فإن هذه المعركة ستشهد مواجهة كبرى بين قوى الخير وقوى الشر، وتكون مقدمة لنهاية العالم وعودة المسيح لحكم الأرض. وبالتالي فإن معركة هرمجدون، سواء كانت حقيقية أو رمزية، تظل جزءاً مهماً من التراث الديني والثقافي، وتجسّد مفهوم الصراع النهائي، ويوجد مثل هذا الفهم لدى فئات من المسلمين وغيرهم.

السخرية في الموضوع أن اليهود يعلمون جيداً أن ما يعتقد به الإنجيليون لا يعدو أن يكون كلاماً فارغاً، حتى لو تضمن رغبة في فنائهم للتعجيل بعودة المسيح، وبالتالي عملوا جاهدين، ولسنوات، على غض النظر عن ذلك الجانب من الموضوع، وقبول الوضع كما هو، طالما أن الأمور ستنتهي في النهاية لمصلحتهم. كما يعلم الإنجيليون بأن اليهود لا يصدقون روايتهم، ولكنهم على ثقة بوقوع المعركة. وهكذا نجد الطرفين الأكثر ذكاء بين كل شعوب العالم، والأكثر تعقيداً، والأكثر ثراء وإبداعاً، يؤمنان، كل على طريقته، بـ«تفاهة» رواية الآخر، والعمل على استغلاله لمصلحته.


أحمد الصراف