فارس خشان
صياغة إسرائيل لإدراج لبنان ضمن أهداف الحرب التي تخوضها، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تظهر تواضعاً غير مسبوق في أدبيات حكومتها المكوّنة من قوى طالما انحرفت إلى "تكبير الكلام". الفضل في ذلك يعود إلى رئيسها بنيامين نتنياهو الذي يخشى، على الأرجح، من "لعنة لبنان". يتذكر مصير القادة الإسرائيليين الذين وسّعوا طموحاتهم وخشّنوا ألسنتهم وضخّموا أهدافهم، في الحروب التي شنّوها على لبنان، منذ اجتياح عام 1982 حتى "حملة لبنان الثانية" في عام 2006.
الهدف الذي صاغه نتنياهو واضح: "توفير العودة الآمنة للسكان إلى الشمال"!
وتحقيق هدف كهذا "محكوم بالنجاح" لأنّ إسرائيل تملك إمكاناته العسكرية والدبلوماسية والسياسية، مهما تقلّبت بها الظروف، فهي لا تريد تفكيك "حزب الله" ولا قلب نظام الحكم في لبنان ولا إعادة احتلاله. جلّ هدفها المعلن هو أن تعيد، بكل الوسائل المتاحة، سكان الشمال إلى منازلهم "آمنين"!
ولكنّ "تواضع الهدف" لا يعني، بالضرورة، تواضعاً في الخطط التي عليها تمهيد الطريق إلى تحقيقه، والقدرات المرصودة له. فهو هدف يحمل "رحماً خبيثة"، بحيث يمكن الميدان أن يولّد، في وقت لاحق، ألف هدف وهدف.
وفي هذه المرحلة، وفق ما تشير إليه التقارير الإسرائيلية المتعددة، هناك تواطؤ لا بدّ من التوقف عنده بين رئيس الحكومة الإسرائيلي وقائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. بنيامين نتنياهو "المتواضع بصياغة الهدف" يدعم أوري غوردين "الطموح جداً". "أمان سكان الشمال" يعني في مخطط كشف غوردين عن بعض خطوطه العريضة "إقامة إسرائيل منطقة أمنية عازلة داخل لبنان"، بهدف حماية الشمال من سيناريو شبيه بسيناريو الجنوب في 7 تشرين الأول.
وهذا يفيد بأنّ ما لن يتحقق بالدبلوماسية وما فشل فيه القرار 1701 الذي يُراعي سيادة لبنان، قد تنجزه إسرائيل بالاحتلال.
وهنا، يتخلّى الهدف الإسرائيلي عن تواضعه كلياً؛ إذ يتم تحويله ضمناً إلى فعل احتلالي يستحيل تحقيقه من دون كثافة نارية هائلة وتدمير كامل ومناورة برية تُحاكي السيناريوهات التي نفذتها في غزة الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي يتم نقلها، تباعاً، من جبهة الجنوب إلى جبهة الشمال. وهذا الهدف يريد استثمار المواجهات المستمرة منذ أكثر من 11 شهراً، إذ تعتقد قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي أنّها قضت على كثير من عوامل القوة لدى "حزب الله" في المنطقة الحدودية: ضربت مراكزه، استهدفت فِخاخه، صفّت المحترفين فيه، زعزعت مركزية القيادة، وأبعدت أغلبية المقاتلين نحو شمال نهر الليطاني.
وعلى الرغم من ذلك كله، يبقى كل هذا طموحاً تكتيكياً على اعتبار أن المطلوب استراتيجياً هو إبعاد القدرات الهجومية لـ"حزب الله" عن الحدود مع إسرائيل إلى مستوى "الأمان الهجومي"، إذ لم يعد ممكناً التفتيش عن الأمن بالمطلق، على اعتبار أنّه في عصر المسيّرات والصواريخ البالستية، لم تعد المجاورة الجغرافية تعني شيئاً.
وبناءً عليه، يمكن أن يكون هذا الهدف الحربي في خدمة الحل الدبلوماسي، سواء تفاعل "حزب الله" مع أبعاده العسكرية وحاول تحاشيها، في مرحلة أولى، أم اضطر، في مرحلة ثانية، بعد اختبار ما بقي مخفياً من قدراته الصاروخية والحربية، إلى الموافقة على "تسوية".
هذا التواطؤ بين نتنياهو وغوردين له بعد أهم من "لعبة الحرب". فـ"تواضع" الصياغة يهدف إلى احتواء معارضة البيت الأبيض المستمرة لأيّ حرب واسعة على لبنان، وذلك لسببين، أولهما إمكان إيجاد حلّ عبر الدبلوماسية النشطة، وثانيهما تحاشي إمكان أن تشعل الحرب على لبنان حرباً إقليمية بدخول مباشر لإيران على الخط، الأمر الذي لا يتواءم وحملة كامالا هاريس الخاصة بالانتخابات الرئاسية في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. يواكب وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي هذا الطرح الأميركي بتقديم ما يمكن أن يرضيه من خلال وقف الحرب في غزة، بما يحقق واحداً من أهداف الأميركيين في مقابل شنّ حرب ضد "حزب الله" في لبنان، بما يحقق "الطموحات الأمنية لإسرائيل". في المقابل، فإنّ "طموح غوردين" يتفاعل إيجاباً مع البيئة الحاضنة للقيادة الشمالية، حيث تعلو الأصوات بوجوب شنّ حرب طاحنة على "حزب الله" تُعيد الأمن إلى سكان الشمال، وتنقل "الشريط الأمني" من داخل إسرائيل إلى داخل لبنان.
ماذا يعني ذلك كله؟
ببساطة، يمكن أن يتجنّب لبنان الحرب إذا أعاد سيادة الدولة على الجنوب، من خلال تفعيل تنفيذ القرار 1701، لأنّ هذا، في المحصلة، ما سوف يُضطر إليه، لكن بعد أن يتكبّد كلفة لا يملك القدرة على تحمّلها. فقوة "حزب الله" النارية قد تؤذي إسرائيل، لكنّها بالتأكيد سوف تُنهي لبنان!
التعليقات