فارس خشان
في إسرائيل، يعرب محللون سياسيّون وعسكريّون كثر عن استغرابهم من عدم إقدام قواتهم المسلحة على "استثمار" حال الضياع والبلبلة والإحباط والتشتت التي ألمّت بـ"حزب الله"، بعد انفجار أجهزة "بيجر" الخاصة به، ومن ثم أجهزة "توكي ووكي" التي يستعملها. ما يثير استغراب هؤلاء، تتقاسمه قيادة "حزب الله" نفسها، بعدما اعتقدت أنّ المستويات العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية لن تمرر إنجاز أكبر خرق أمني على الإطلاق، من دون هجوم صاعق يُترجم قرار الحرب على الحزب تحت عنوان "الإعادة الآمنة لسكان الشمال إلى منازلهم"، خصوصاً بعدما تلقى الوسطاء، مساء الثلثاء، أي عقب انفجار أربعة آلاف جهاز ضمن شبكة "الإشعار" بحامليها، رفض الحزب وقف النار على الجبهة الشمالية بشكل مستقل عن وضعية قطاع غزة الحربية، الأمر الذي عاد وجدده الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في كلمته الأخيرة، عصر الخميس، أي بعد تفجير أجهزة التواصل اللاسلكية.
لتوضيح هذه الإشكالية، كان لا بد من الحصول على معطيات موضوعية. في إسرائيل، يتكلم من يجهل ويصمت من يعرف، لأنّ هناك قراراً مركزياً بالتعاطي مع ما حصل بـ"صمت مطبق". صمت يعتمده من يريد أن يُفهِم الجميع بأنّه متورط، ويعينه، في الوقت نفسه، على التملّص من المسؤوليّة. أحدث نموذج عن الخدمات التي يقدمها هذا النوع من الصمت ما كان قد حصل بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران. أمّا في لبنان، فقد اعتاد "حزب الله" على تقديم السردية التي يراها الأنسب له، من دون أن يعير أيّ اهتمام للأسئلة الحقيقية. هو يسهب في الكلام، ولكن يمتنع عن التفاعل مع الأسئلة.
المعطيات الموضوعية إذاً، غير متوافرة، ولكن يملك بعض أصحاب الخبرة تفسيرات منطقية. في نقاش مع هؤلاء يلفتون الانتباه إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية باتت، بفضل "محكمة العدل الدولية" ومكتب الادعاء العام في "المحكمة الجنائية الدولية"، تُخضع كل الخطوات العسكرية والأمنية التي تُقدم عليها لمراقبة قانونية لصيقة، ولذلك، وفي سياق عدم تبنّي أيّ عملية قد تشكل خرقاً للقوانين الدولية وتستتبع مسؤوليات جماعية وفردية، لا يمكنها الاكتفاء بالصمت، بل تجد نفسها ملزمة بعدم استثمار أيّ عمل قد يخضع للمساءلة في أيّ خطوة لاحقة متصلة. وبهذا المعنى، وفق هؤلاء المخضرمين، فإنّ إسرائيل لو شنّت الحرب التي كان يتوقعها "حزب الله" ويتمنّاها المحللون الإسرائيليّون، بعد انفجارات أجهزة "بيجر" و"توكي ووكي"، لكانت قد قدمت دليلاً إلى تورطها في ما يمكن أن يعتبره القانون الدولي جريمة.
ولكنّ هذا وحده لا يكفي لتفسير امتناع إسرائيل عن شنّ هجوم صاعق على "حزب الله" في أوج التضعضع والخسائر والذهول، فأصحاب الخبرة الذين جرت مناقشة معطيات هذه المقالة معهم، يعتبرون أنّ الحكومة الإسرائيلية، في ظل الضغط الدولي المستمر عليها للامتناع عن شنّ حرب واسعة على لبنان، من جهة، ومخاوفها الصحيحة من الحجم الضخم للخسائر المتوقعة بفعل ترسانة الصواريخ الهائلة التي يملكها "حزب الله"، من جهة أخرى، اختارت أن "تهضم جيّداً" إنجازها المخابراتي غير المسبوق، لتستثمره دبلوماسياً ومعنوياً وليس عسكرياً!
كيف ذلك؟
تثق الحكومة الإسرائيلية بأنّ أيّ عملية عسكرية ضخمة على "حزب الله" تستدعي شنّ حرب على كل لبنان. وهذه الحرب، على خلاف ما هو حاصل في غزة، سوف تكون محكومة بفترة زمنية لا يمكن تمديدها، الأمر الذي سيلزم الجميع بقبول تسوية دبلوماسية، لن تختلف كثيراً عمّا هو مطروح حالياً على مستوى تنفيذ "صارم" لمندرجات القرار 1701.
وهذا يعني أنّ "القضاء على القدرات العسكرية لحزب الله" لا يدخل في جدول أعمالها، على الإطلاق. حالها هنا ليس كحالها في غزة مع "حماس". جل ما تهدف إليه هو دفع الحزب إلى الموافقة على تسوية سريعة، تحت طائلة تدفيعه أفدح الأثمان.
منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، تاريخ إشعال "المقاومة الإسلامية في لبنان" الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية، حتى بعد ظهر الثلثاء الماضي، تاريخ الانفجارات التي دوّت في أجهزة "بيجر"، كانت قيادة "حزب الله" واثقة بأنّ إسرائيل لن تشن حرباً واسعة عليه، وبالتالي كانت هذه القيادة قادرة على تقديم حزبها، على رغم الخسائر البشرية "المؤلمة" في صفوف جهازه العسكري، على أساس "التكافؤ" مع أقوى جيش في المنطقة. كانت المعادلة واضحة: التفوّق العسكري عند الجيش الإسرائيلي، بتوافر تكنولوجيا متطورة لديه يقابله التفوّق المعنوي بقبول الخسائر البشرية، عند "حزب الله".
حتى تاريخه، والحالة هذه، كان يمكن للأيديولوجيا أن تقارع التكنولوجيا!
وهذا "التكافؤ" لم يكن يعطي ثقة بـ"حزب الله" لدى مقاتليه وبيئته ورعاته وحلفائه فحسب، بل كان أيضاً يوفر للحزب الحجج للتملّص من الضغوط المرافقة للمساعي الدبلوماسية الهادفة إلى التوصل إلى تسوية من شأنها احتواء التصعيد على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية.
بالنسبة إلى إسرائيل، ما حصل يومي الثلثاء والأربعاء، قد يؤدي، في القريب العاجل، إلى تغيير تلك المعادلة، ويعطيها تفوّقاً دبلوماسياً ومعنوياً يضاف إلى التفوق العسكري المعترف به، ذلك أنّ التفجيرات التي اجتاحت أجهزة "بيجر" و"توكي ووكي" لم تذهل "حزب الله" فقط بل العالم بأسره، أيضاً. صحيح أنّ الإنسانيين يقاربونه على قاعدة أخلاقية، ولكن الصحيح أكثر أنّ أصحاب القرار يتعاطون معه على أساس أنّه تطوّر مذهل في محاربة ما يتقاطعون على وصفه بالتنظيمات "الإرهابية"، الأمر الذي يدفعهم أكثر فأكثر إلى التقرب من إسرائيل وأجهزتها وخبرائها.
والأهم من ذلك، فإنّ "حزب الله" الذي تلقى هذه الضربة القاسية جداً، لن يكون بمأمن من تخيّل ما يخبئ له المستقبل، إن طال أمد هذه الحرب. وهذا ما يسمّى في علم الأمن بزراعة "الخيال الترهيبي" في دماغ العدو. فحصول "غير المسبوق" على مستوى آلاف أجهزة الإشعار والتواصل، قد يكون في انتظار مستويات أخرى أكثر أهمية وحساسية، في وقت لاحق. وهنا تأخذ هاتان العمليتان مدى أهم من الخسائر المادية والضرر المعنوي، إذ يصبح شبح "غير المسبوق" يواكب كل ما يلمسه "حزب الله" أو يستعمله.
ويضاف إلى ذلك ما هو أثمن من أيّ شيء آخر: زعزعة الثقة ضمن الإطار القيادي في "حزب الله" نفسه، إذ إنّ ما حصل قد يكون من فعل العدو، ولكنه يحتاج بالضرورة إلى مؤازرة من داخل منظومة القرار في الحزب.
وفي سياق الخسائر الفادحة أيضاً يمكن إدراج نتيجة مربكة جداً. سوف يجد الحزب نفسه مضطراً إلى قطع كل علاقاته بالشبكات "الغالية" التي قبلت بأن تزوّده، من خلال السوق السوداء، بما يحتاج إليه من تكنولوجيا. وما يضرب "حزب الله"، لهذه الجهة يضرب في الوقت نفسه إيران وجميع تنظيمات "محور المقاومة" التي تلجأ عادة إلى السوق السوداء، للحصول على ما هو محظور عليها.
وبناءً على ذلك، تفضل إسرائيل أن تعطي العمليتين الضخمتين اللتين حصلتا، يومي الثلثاء والأربعاء، مداهُما حتى تنتجا، في ضوء خفوت العواطف الجيّاشة، مفاعيلهما المادية والمعنوية والسياسية، لدى "حزب الله" أوّلاً، ولدى إيران "الخائفة عليه" ثانياً، فرصة للخروج من معادلة تكبيد الشمال أثمان غزة والضفة.
وفي إسرائيل، يقول كبار المسؤولين: قرار الحرب اتخذ. والتنفيذ، إذا لم تثمر دقيقتا الثلثاء والأربعاء، "لاحقين عليه"، خصوصاً أنّ التمهيدات الميدانية واللوجستية على قدم وساق!
التعليقات