أحمد نظيف

ما جرى في لبنان قبل أيامٍ، والنقاش الذي نشب حول سلاسل توريد أجهزة "بيجر"، يقدّم وجهاً من وجوه التناقض الذي نعيشه بين الرأسمالية العولمية والرأسمالية الحمائية. فما وقع يكشف عن إمكانية تحول نمط الإنتاج والتوزيع المعولم إلى سلاح. ليس مجرد سلاح ضغط سياسي أو اقتصادي، بل سلاح حقيقي قادر على القتل والأذى.

تطورت الرأسمالية، كنظام اقتصادي عالمي بطرق معقّدة ومتناقضة في كثير من الأحيان. وقد برز اتجاهان رئيسيان في العصر الحديث، هما الرأسمالية العالمية والرأسمالية الحمائية. ويمثل هذان النموذجان نهجين مختلفين جوهرياً للنمو الاقتصادي والتجارة والحوكمة. وفي حين أن الرأسمالية العالمية متجذرة في مبادئ السوق الحرّة والتجارة عبر الحدود وحركة رأس المال والعمالة عبر الحدود الوطنية، فإن الرأسمالية الحمائية تؤكّد على السيادة الوطنية والاعتماد على الذات اقتصادياً وحماية الصناعات المحلية من خلال تدخّل الدولة. إن التوتر بين هذين الشكلين من الرأسمالية، يعكس تناقضات أعمق داخل النظام الاقتصادي العالمي. ففي حين كانت العولمة بمثابة القوة الدافعة وراء النمو الاقتصادي والابتكار والتعاون الدولي، فإنها أدّت أيضاً إلى تفاوتات كبيرة، واضطرابات اقتصادية، وتآكل السيطرة الوطنية على السياسة الاقتصادية. ورداً على ذلك، تبنّت بعض البلدان سياسات حمائية تهدف إلى حماية اقتصاداتها من التأثيرات السلبية الملموسة للمنافسة العالمية. وهذا يخلق علاقة معقّدة ومتناقضة في كثير من الأحيان بين الرأسمالية العالمية والرأسمالية الحمائية، وهو ما يخلّف آثاراً عميقة على مستقبل الحوكمة الاقتصادية.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبروز نظام أحادي الهيمنة، نجحت الرأسمالية العالمية في دمج الاقتصادات الوطنية في سوق عالمية واحدة مترابطة. يعتمد هذا الشكل من الرأسمالية على التجارة الحرّة والأسواق المفتوحة وحرّية تنقل رأس المال والعمالة. والاعتقاد الأساسي الذي يدعم الرأسمالية العالمية هو أن التحرير الاقتصادي، جنباً إلى جنب مع الحدّ الأدنى من تدخّل الدولة، يؤدي إلى تخصيص أكثر كفاءة للموارد وزيادة الابتكار والنمو الاقتصادي الشامل. والفكرة هي أن السلع والخدمات ورأس المال يجب أن تتحرك بحرّية عبر الحدود، ما يسمح للدول بالتخصص في إنتاج ما هي أكثر كفاءة فيه.

ويمكن حصر أربعة أسس لهذه الرأسمالية المعولمة. أولاً، اتفاقيات التجارة الحرّة التي تعمل من خلال مستوى ثنائي ومستوى متعدد الأطراف، على تقليل التعريفات الجمركية وحصص الاستيراد وغيرها من الحواجز أمام التجارة، ما يتيح للدول تبادل السلع والخدمات بحرّية أكبر. ثانياً، الشركات المتعددة الجنسيات التي تنشط عبر بلدان متعددة، وتستفيد من سلاسل التوريد العالمية وأسواق العمل وقواعد المستهلكين لتحقيق أقصى قدر من الأرباح والكفاءة. ثالثاً، التحرير المالي، حيث يتدفق رأس المال بحرّية عبر الحدود، ويسعى المستثمرون إلى اغتنام الفرص في الأسواق العالمية. ويلعب الاستثمار الأجنبي المباشر دوراً رئيسياً في نشر رأس المال والتكنولوجيا في البلدان النامية. ورابعاً، مؤسسات الحوكمة العالمية، مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، الراعية للتجارة الحرّة وتوفير الأطر اللازمة لحل النزاعات التجارية.

هذا النمط من الرأسمالية، ورغم ما حققه من توسع في النمو والانتاج، إلّا أنه وصل مع الأزمة المالية العالمية 2008، إلى أزمةٍ بدأت في التعاظم منذ ذلك الوقت. فقد أدّت العولمة إلى تركيز الثروة في أيدي الشركات المتعددة الجنسيات والنخب، في حين ظلت أجور العمال وسائر الأجراء راكدة أو متراجعة. وتتوزع الفوائد الاقتصادية للعولمة بشكل غير متساوٍ، ما يساهم في تزايد التفاوت في الدخل داخل البلدان وفي ما بينها. ومع نقل الشركات للإنتاج إلى بلدان ذات عمالة أرخص، يفقد العمال في الاقتصادات ذات التكاليف المرتفعة وظائفهم، وبخاصة في قطاعات التصنيع. وقد أدّى هذا إلى إزالة الصناعة في العديد من البلدان الغربية وانحدار الوظائف الآمنة ذات الأجور الجيدة للعمال ذوي الياقات الزرقاء. فضلاً عن تآكل السيادة الوطنية. فمع توسع شبكات التجارة والتمويل العالمية، تجد الحكومات الوطنية صعوبة أكبر في السيطرة على اقتصاداتها. على سبيل المثال، يمكن لأسواق رأس المال العالمية أن تحدّ من قدرة أي دولة على تنظيم قطاعها المالي أو تنفيذ سياسات اقتصادية مستقلة. كما أدّت إلى تحولات على مستوى الثقافة، فقد دفعت نحو انتشار ثقافة غربية مدفوعة بالمستهلك، ما أدّى إلى تآكل التقاليد والهويات والممارسات المحلية.

وقد ظهرت الحركات القومية والشعبوية منذ سنواتٍ كتجلٍ للكوارث الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي خلفتها العولمة. وقد دفع ذلك إلى عودة أدبيات الدفاع عن الرأسمالية الحمائية التي تؤكّد دور الدولة القومية في السيطرة على اقتصادها المحلي وحمايته من المنافسة العالمية بشكل قوي وواضح، وتدعو إلى سياسات تحدّ من الواردات، وتحمي الصناعات المحلية، وتحدّ من الملكية الأجنبية للقطاعات الرئيسية. وكثيراً ما يتمّ تبرير الحمائية كوسيلة للحفاظ على الوظائف، وحماية الأمن الوطني، والحفاظ على السيادة الاقتصادية، فضلاً عن طابعها السيادي، من خلال العمل على تعزيز الاعتماد على الذات عبر تشجيع الإنتاج المحلي والحدّ من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية. وقد يكون هذا مفيداً في أوقات عدم اليقين الاقتصادي العالمي أو الأزمات، كما حدث أثناء جائحة كوفيد-19. أو من خلال حماية الصناعات من المنافسة الأجنبية، حيث يمكن للسياسات الحمائية أن تمنح الشركات المحلية الوقت والمساحة التي تحتاجها للابتكار وتطوير المزايا التنافسية.

إن أحد التناقضات المركزية بين الرأسمالية العالمية والرأسمالية الحمائية هو التوتر بين الربحية والسيادة. فالعولمة مبنية على فرضية مفادها أن الأسواق الحرّة والتجارة عبر الحدود تؤدي إلى قدر أعظم من الكفاءة والابتكار والنمو الاقتصادي، وبالتالي الربح. ومع ذلك، فإن هذا يأتي في كثير من الأحيان على حساب السيطرة الوطنية على الصناعات الرئيسية والسياسات الاقتصادية. كما يمكن للتدابير الحمائية أن تمنع السيطرة الأجنبية على الصناعات الحيوية، مثل الدفاع أو البنية التحتية، ما يضمن بقاء هذه القطاعات تحت السيطرة الوطنية. في الوقت نفسه، تشجع الرأسمالية العالمية حرّية حركة رأس المال، ما يسمح للمستثمرين والشركات بنقل الموارد عبر الحدود بحثاً عن عوائد أعلى. ومع ذلك، غالباً ما تسعى السياسات الحمائية إلى تقييد حركة رأس المال، لأسباب سيادية أو حتى أمنية.

ولعلّ الحرب التجارية والتقنية بين الولايات المتحدة والصين هي أفضل مثال عن هذا التوتر. والمفارقة الأكبر في هذا المثال، هي انقلاب الأدوار، حيث أصبحت الصين مدافعاً قوياً عن العولمة، في حين عادت الولايات المتحدة التي خلقت العولمة وروجت لها وكرّستها على مدى عقود، إلى تقاليد الدولة الحمائية، لاسيما في قطاعات التكنولوجيا.

لكن عكس ما يُروّج، فالعولمة لا تزال قويةً رغم ما تعرّضت له من أزمات مالية وصحية وأمنية. لكن منطق سلاسل التوريد أصبح أكثر هشاشةً من أي وقت مضى، إذ أصبحت الشركات تسعى بشكل متزايد إلى تعزيز سلاسل التوريد الخاصة بها من خلال إعادة الإنتاج إلى الداخل. ووفقاً لبحث مكثف أجراه صندوق النقد الدولي حول هذا الموضوع، فقد ارتفعت الإشارات إلى كلمات إعادة الإنتاج إلى الداخل، والتحويل إلى الداخل، في عروض أرباح الشركات، بنحو عشرة أضعاف، منذ بدء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. ويمكن أن نرصد ذلك مثلاً في مشروع الاتحاد الأوروبي لإعادة توطين الصناعات، بعد سنوات من الاعتماد على نموذج انتقال التصنيع المنخفض التكلفة نحو الصين أو دولٍ في الجنوب العالمي. لذلك ومع استمرار تطور الاقتصاد العالمي، من المرجح أن يستمر التوتر بين الرأسمالية العالمية والرأسمالية الحمائية. وسوف تحدد الطريقة التي تتعامل بها البلدان مع هذه التناقضات مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، ما يؤثر على كل شيء من سياسات التجارة والاستثمار إلى أسواق العمل والتفاوت الاجتماعي. لكن الواضح على المدى المتوسط أن هذين النموذجين من الرأسمالية يتعارضان في كثير من الأحيان، ولكنهما يتعايشان أيضاً بطرق معقّدة. فالعديد من البلدان تواصل المشاركة في الأسواق العالمية في حين تنفّذ في الوقت نفسه تدابير حمائية لحماية الصناعات الرئيسية أو معالجة المخاوف الاقتصادية المحلية. ويتمثل التحدّي الذي يواجه صنّاع السياسات في إيجاد التوازن بين الحفاظ على السيادة وبين تحقيق التراكم.