تكاد الحرب الثالثة على لبنان تصبح من دون سقوف، والبلد مكشوف أمنياً واستخباراتياً. اجتياح جوي تدميري تهجيري بدأته إسرائيل، السبت الماضي، وتحول منذ الاثنين إلى إبادة جماعية، فتمددت المجازر بين الجنوب والبقاع، لتتظهر حصيلة ثقيلة مع سقوط أكثر من 600 ضحية، وما يزيد على ألفي إصابة. فخرجت مستشفيات عن الخدمة، وسيطر خوف وهلع قابلهما تهجير جماعي قسري لمئات الألوف ممن أذلتهم العجرفة!

ترك تسارع الأحداث ملامح قاتمة، وكأن لبنان في طريق التحول إلى غزة ثانية، بعدما استنسخ التوحش الصهيوني أكثر من غزة صغيرة في البلدات الحدودية التي تحولت إلى رماد! بدأ المنحى الخطير من لحظة إدراج الحكومة الأمنية الإسرائيلية جبهة الشمال في قائمة أهداف الحرب لتشمل «العودة الآمنة لسكان الشمال إلى منازلهم». وتتالت الضربات الإسرائيلية القاتلة منذ السابع عشر من الشهر الحالي. ويعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أنه وعد بتغيير «ميزان القوى في الشمال، وهذا ما نفعله بالقضاء على كبار المسؤولين، ونزيل تهديد الصواريخ». فيما رأى البنتاغون أن «اندلاع صراع إقليمي أوسع محتمل جداً»!

من اللحظة الأولى لبدء التدحرج المخيف، كان يفترض بـ«حزب الله» الذي أخذ البلد عنوة إلى حربٍ مدمرة أن يوقف المكابرة، ويبدأ مراجعة وضعه الداخلي، ويعيد النظر بعلاقته مع الفئات اللبنانية الأخرى؛ لأنه بدقيقة واحدة بدا لبنان يوم «النداء القاتل» أوهن من بيت العنكبوت. من دون أي رصاصة، «حيّدت» ضربة أجهزة «البيجر»، نحو 4 آلاف أكثرهم من عناصر الميليشيا وقياداتها الميدانية وقوات النخبة. ومع تفجر أجهزة الاتصال بحامليها استكملت ملامح المأساة الوطنية، لتطال الفاجعة نحو 6 آلاف أسرة.

إبان ذلك تغاضى حسن نصرالله عن أبعاد إدراج حكومة إسرائيل جبهة الشمال ضمن أهداف الحرب، فرفع سقف التحدي بعد رفض كل المبادرات السياسية لتسوية كانت ممكنة. تمسك بربط مصير لبنان بغزة، أي بمصير نتنياهو ومصالحه، فوفر لإسرائيل فرصة إطلاق حربها الثالثة بصفتها بديلاً عن الحرب الواسعة لتحقق استعادة مدوية للردع. حدث لا يخطر ببال متعاطٍ جدي بالشأن السياسي لأنه استدعاء للحرب، في حين أن الحكمة كانت تفترض تجنبها. فجاء الرد الإسرائيلي في عملية «الجاموس» باستهداف القائد العسكري لـ«حزب الله» إبراهيم عقيل ومقتله مع الطاقم القيادي لقوة «الرضوان»، ما كشف عن معطيات خطرة:

أولها، أن «حزب الله» لم ينجح في مواجهة الاختراق الاستخباراتي والأمني العميق. 3 عمليات اغتيال على مستوى القمة في معقل الحزب: العاروري وشكر وعقيل، تُوّجت الاثنين الماضي باستهداف علي كركي وإصابته، وهو أحد اثنين ما زالا على قيد الحياة من أعضاء مركز القرار الفعلي.

ثانيها، سقطت الشعارات الزائفة والسرديات عن: قواعد الاشتباك، وإنجازات المشاغلة والإسناد، كما خرافة توازن الردع. لكن بيع الأوهام استمر ومعه رفض الإقرار بحجم الفشل الذي ارتد قتلاً ودماراً على البلد.

ثالثها، انكشف جانب من تعامل الدويلة مع اللبنانيين وكذلك «بيئتها». فبدت كالنظام الإيراني غير عابئة بآمال الناس وهواجسها، تعدّ ما تسببت به من ويلات مجرد خسائر جانبية على طريق مشروع توطد سيطرة إيران. ولو لم يكن الأمر كذلك لما وُجدت القيادات والمقرات والذخائر، في أمكنة سكنية مكتظة.

رابعها، سقطت المزاعم التي روجت أن سلاح الدويلة يحمي البلد، وكذلك الادعاء بأن هذا السلاح يؤمن حماية ذاتية. فيتأكد في هذا التوقيت أن الدولة التي استضعفوها وجوّفوا مؤسساتها ونخروها بالفساد وأفقروا أهلها، قادرة رغم كل هذا الضعف على إعادة الأمن والاستقرار وحماية الجميع، بمن فيهم «حزب الله» الذي تحول إلى الدفاع عن وجوده.

تحت الضربات الموجعة التي اعترف نصرالله بوطأتها، وفيما «البيئة» اللصيقة وأوساط واسعة في «الحزب» تنتظر مدد «وحدة الساحات»، أعلنت طهران استعدادها لبدء مباحثات بشأن مشروعها النووي. وقدم الرئيس الإيراني نفسه في نيويورك كداعية سلام، مؤكداً امتناع بلاده عن التدخل في حرب إسرائيل - «حزب الله»، ما يعني أن وظيفة الأتباع والأذرع لا تتعدى دور أدوات طهران لإنجاز صفقات قذرة مع واشنطن وتل أبيب!

ما من أولوية تفوق حقن دماء المواطنين وإنقاذ لبنان. وممكن الحؤول دون تحول لبنان إلى غزة. رغم أن العالم أدار ظهره للمقتلة ومخطط طحن لبنان، ومنح إسرائيل التغطية لتتمادى في الجريمة، تحت عنوان خفض قدرات «حزب الله» العسكرية، بحيث لم يعد من جدوى لعنوان يقتصر على الانسحاب إلى شمال الليطاني.

إن الممر الإجباري لوضع حدٍّ للخسائر الهائلة يفترض أن تتحمل بقايا السلطة والطبقة السياسية المسؤولية الأخلاقية عن أرواح اللبنانيين، فتغادر الحكومة دور ساعي البريد الناطق باسم «حزب الله» والمشروع الموكل إليه. مطلوب الآن قرار حكومي بإرسال قوات كبيرة من الجيش إلى الجنوب، في رسالة لا تقبل اللبس، عن اعتزام تنفيذ القرار الدولي 1701 بكل مندرجاته، وملاقاة الصيغ الجديدة المطروحة ضمن هذا القرار، التي تضمن السيادة وتعيد قرار الحرب والسلم إلى الدولة. المطلوب سياسة بديلة تفتح الباب لدور داعم من أصدقاء لبنان يرسي الأساس للخروج من الحرب... وربما تتأمن إذاك الإمكانية لـ«حزب الله» للنزول عن الشجرة التي صعد إليها.