أسعد عبود
في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الثلاثاء، ركز على أوكرانيا أكثر مما أولى شأناً للنزاعات الأخرى التي تجري في لبنان وغزة والسودان. فهو يعتبر أن أوكرانيا هي الإرث السياسي الوحيد الذي يمكنه أن يتباهى به بعد خروجه من البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل.
أما لبنان وغزة فهما عنوانان عريضان للفشل الكبير للسياسة الخارجية الأميركية. فمنذ أشهر، وعد بايدن بالعمل على وقف النار في غزة، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تلاعب به وماطل وواصل حربه. كما وعد بايدن بالعمل على منع تمدد الحرب من القطاع لتشمل لبنان، وها هي إسرائيل تخالف رغبة سيد البيت البيت الأبيض وتمضي في أجندة الحرب إلى ما لا نهاية.
بقيت أوكرانيا، حيث يزعم بايدن أنه أحبط خطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للهيمنة على كييف، وشقّ حلف شمال الأطلسي. مع ذلك، لا يذكر بايدن أن الولايات المتحدة كانت سبباً أساسياً في نشوب الحرب، عندما رفضت التعهد للكرملين بوقف زحف الحلف الغربي نحو الحدود الروسية. ولا يكفي تصوير روسيا بأنها قوة إمبريالية كي تكون أميركا على حقّ.
ثمة من قال إن أوروبا هي اليوم أكثر أماناً على الرغم من الدعم الأميركي الواسع لأوكرانيا، عسكرياً واقتصادياً. وفي العاشر من تموز (يوليو)، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس أن الولايات المتحدة ستعيد نشر صواريخ متوسطة المدى في ألمانيا، اعتباراً من عام 2026، وهذا إجراء تعهدت روسيا بالردّ عليه.
السياسة الأميركية القائمة على رفض الدخول في أي حوار مع روسيا لوقف النزاع الأوكراني، تعيد تشكيل أوروبا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لا يعارض المسؤولون الأميركيون الحوار بالمطلق، إنما يريدونه بعد هزيمة روسيا في الميدان. التطورات الأخيرة على الجبهات لا ترجّح هزيمة قريبة لروسيا، على الرغم من التوغل الأوكراني في كورسك الروسية في آب (أغسطس) الماضي، وعلى الرغم من التفوق الأوكراني بسلاح المسيّرات الذي يضرب في عمق الأراضي الروسية ويطاول مصاف للنفط ومطارات ومصانع ومستودعات للذخائر، بينما يواصل الجيش الروسي التقدم في منطقة دونيتسك بشرق البلاد ويهدد بتوجيه ضربة استراتيجية للقوات الأوكرانية في حال وصل إلى مدينة بوكروفسك.
يؤيد معظم العالم الحلّ السياسي في أوكرانيا، من الصين إلى الهند إلى البرازيل إلى جنوب أفريقيا وتركيا والدول العربية وسائر قوى الجنوب العالمي. وحدها أميركا تُعاند، وتسعى إلى كسر المعادلة على الأرض. حتى الآن، يُحاذر بايدن السماح للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باستخدام الصواريخ الأميركية من طراز "أتاكامز" لضرب العمق الروسي، وهو يخشى رداً روسياً خارج النطاق الأوكراني، كأن تزود موسكو دول على خصومة مع الولايات المتحدة، وفي مقدمها إيران والحوثيين، بتقنيات تزيد من قدراتهم الصاروخية، بما يوجد توازنات جديدة في الشرق الأوسط.
وفي 10 تشرين الأول (أكتوبر)، يزور بايدن ألمانيا للتأكيد على الروابط عبر الأطلسي، وعلى التزام أميركا مساعدة أوكرانيا "طالما استلزم الأمر". ونشر الصواريخ الأميركية المتوسطة المدى يندرج في سياق طمأنة الدول الأعضاء في الأطلسي إلى أن واشنطن لن تتخلى عنهم، في وقت يسود الذعر في صفوف القادة الأوروبيين من احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات 5 تشرين الثاني (نوفمبر). وترامب، كما بات معروفاً، لا يُظهر حماسةً للحرب في أوكرانيا، ويفضل العودة إلى سياسة "أميركا أولاً" التي تعزز الاتجاه الإنعزالي في الولايات المتحدة.
لذلك، يدعو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأوروبيين إلى بناء قدرات صاروخية مستقلة عن الولايات المتحدة. وفي 12 تموز (يوليو)، وقعت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا رسالة نيّات لصنع صاروخ "كروز" بمدى يبلغ أكثر من ألف كيلومتر.
يُعيدنا هذا إلى السؤال الآتي: هل جعلت رئاسة بايدن العالم أكثر أماناً؟ الوقائع تشي بالعكس.
التعليقات