محمد بن عيسى الكنعان

على خلفية أصداء معرض الرياض الدولي للكتاب الذي انقضى قبل شهر تقريبًا، كان لي حديث عابر مع أحد الإخوة الخاصين، وهو طبيب استشاري عظام ناجح ومتميز، وذلك خلال أمسية جمعتنا مع بعض الإخوة - أو حسب التعبير الحائلي (الشبّة) - وبالمناسبة الاستشاري هو عمدة هذه الشبّة؛ حيث بدأ ذلك الحديث بسؤال طرحه عليّ أقل ما يقال عنه إنه غريب، ولا أريد أن أقول غبي! وهو: لماذا تشتري كتباً؟ بل تطور سؤاله إلى ما هو أغرب منه: ما الفائدة من قراءة كتاب؟ وكل شيء موجود بالشبكة العنكبوتية!

هذا السؤال ليس جنايةً على الثقافة، أو محاربةً للمعرفة فحسب! بقدر ما هو قصور في فهم دور المواقع الإلكترونية أو محركات البحث بالشبكة العنكبوتية، التي تُعتبر ناقلة للمعلومة بغض النظر عن صحتها، وليست مصدرًا لها. وهنا يتجلى الفارق بين من يُبحر مع الكتب في مختلف المجالات المعرفية - حتى لو كانت رواية كونها تمثل تجربة إنسانية - وبين من يتصفح المواقع المعلوماتية، أو الثقافية ويلتقط مدوناتها، وموادها ولا يدري عن مدى صحتها.

مع ذلك؛ سأفترض جدلًا أن سؤال استشاري العظام المشار إليه هو سؤال منطقي، أو على الأقل موضوعي، خاصةً أنه لم يُنكر القراءة إجمالًا التي حصرها في القراءة التخصصية، بمعنى أن يقرأ الشخص بما يدخل في اختصاص عمله أو دراسته فقط. أما بشكل عام فما الفائدة عندما تقرأ كتاباً بمجال معين وتخرج بمعلومات محددة، بماذا تفيدك أو تنعكس على حياتك؟ هكذا يتساءل. وأيضًا لأن قطاعاً كبيراً من شباب وبنات جيل منصات التواصل الاجتماعي لا يعرفون الكتاب، أو ليس لهم علاقة به إلا أيام الدراسة، وقطعًا صديقي الاستشاري ليس منهم، ولكنه في مستوى نظرتهم. لهذا سأحاول هنا أن أوضح لصديقي وكل من يرى رأيه أهمية القراءة وقيمة الكتاب أساسًا، خصوصًا أن هناك كثيراً من الناس يتعامل مع القراءة على أنها هواية! كركوب الخيل أو جمع الطوابع، تُهِم فقط من يهواها، أو موهبة كالرسم أو الشعر! تُهِم فقط من يُجيدها، بينما القراءة حالة خاصة في ذاتها، وضرورة حياتية في ممارستها، فهي متلازمة لوعي الإنسان، وحاجة عامة في أثرها وتأثيرها في كل مناحي الحياة، وأوجه التنمية، وإفرازات الحضارة الإنسانية، التي أسهم الكتاب بشكل مباشر في تتابع معطياتها على أرض الواقع العالمي خلال المسيرة البشرية، وبالذات بعد اختراع طباعة الحروف المتحركة على يد يوهانس جوتنبرغ في بلدة مينز الألمانية ما مكّنه من وضع أول كتاب مطبوع عرفته البشرية في 13 مارس 1455م.

لهذا عندما نتحدث عن القراءة فضمنيًا، أو بطريقة غير مباشرة نتحدث عن الكتاب، فهما صنوان لا يفترقان، فالكتاب هو الذاكرة الوثائقية، والوعاء المعرفي، وعصارة الفكر البشري، وخلاصة تجربة الإنسان، بينما القراءة هي عملية ذهنية تتمثل في فهم المعنى الموجود في سياق النص المكون من عدة كلمات وجمل مترابطة تشكل مادة الكتاب؛ لبناء لوحة متكاملة من المعلومات أو المهارات أو البيانات في المجال الذي يتناول الكتاب، وتعكس تجربة إنسانية لمؤلف الكتاب، وبالتالي تتحول القراءة بالنسبة للمتلقي أو القارئ من عملية ذهنية في أساسها، إلى تجربة إنسانية في طبيعتها، وأخيرًا إلى متعة معرفية في أبعادها؛ حيث يُوظف القارئ ما قرأه من معارف ومعلومات في تفاصيل حياته، ومنطق حديثه، ونمط تعاملاته. كما أن القراءة تُسهم في ثرائه اللغوي، وتعزيز رصيده الثقافي، كون الثقافة هي الأخذ من كل شيء بطرف، إلى جانب أنها تُتيح له اكتشاف ذاته أكثر، والتعرف على الآخر بشكل أكثر موثوقية، مع الإبحار في عوالم متنوعة، والعيش في أزمنة مختلفة، والأخذ من ثقافات متعددة، فالكتاب يُلغي الفواصل الزمانية، ويتخطى الحواجز المكانية، ناهيك أن القارئ - ومن خلال الكتاب - يحصد كل ما زرعه المؤلف ويأخذ خلاصة مما توصل إليه العلم أو الثقافة أو الفن؛ لأن الكتاب ببساطة هو أحد مصادر المعرفة الإنسانية.

من يستغني عن القراءة وبالذات الكتاب، فهو كمن ينقطع عن جانب كبير من المعرفة الموثوقة التي هي بالأساس عملية مستمرة، بل ويصبح أسير المعرفة السمعية أو النقلية (ثقافة يقولون)، التي لا تقف على أرض صلبة من صحة المعلومة ودقتها. ويكفينا في هذا المقام قول الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي:

أعزُ مكان في الدنى سرج سابحُ

وخير جليس في الزمان كتابُ