آخر ما نُقل عن الرئيس الأميركي، شبه المختفي، جو بايدن عشية الانتخابات الأميركية، كان نداءً أقرب إلى الاستغاثة للواقفين في الطوابير أمام مراكز الاقتراع، يدعوهم فيها للصمود في الطوابير والتصويت لكامالا هاريس لأن هذا مهم وضروري، أو شيء من هذا القبيل. كان بعض المراكز في الساحل الشرقي على وشك الإغلاق الأول بينما أعداد كبيرة من الناخبين لا تزال تصطف أمام مراكز التصويت، بما فيها الولايات المحسومة تاريخياً، بانتظار دورها في التصويت. مرّت الاستغاثة دون أن تحصل على وقفة أو تعليق أو إشارة من المذيع في الفضائية أو المحللين الذين يظهرون إلى جواره، وبدا أن أحداً لم يلتفت إلى الرجل الذي يستغيث من عتمته. حدث هذا بعد أربع سنوات من وصوله إلى البيت الأبيض. أربع سنوات اتكأ فيها على الخوف من عودة ترامب، كان ذلك جزءاً أساسياً من برنامجه، أنه يشغل الحيز، ويجلس في المكان الذي كان من الممكن أن يحصل عليه ترامب. ولكنه في قلقه ذاك، وفي ثقته بخوف الآخرين كملاذ، كان لا يدرك أنه يذهب، كل يوم تقريباً، ليصوت لمصلحة خصمه؛ تعثّره على السلالم والأرض المنبسطة أحياناً، مشية الروبوت التي يُصر عليها دون معنى، سهوه الدائم والأسماء التي تطير من ذاكرته، محاولاته المتخبطة في التعامل مع نتنياهو ومحاولات احتواء عدوانية الضبع ودهاء الثعلب، طريقة تلقيه للإهانات التي لم تتوقف، بما فيها خطاب الأخير في الكونغرس، تجاهله الغريب للاحتجاجات في كل مكان - الشوارع ومحطات القطارات والجسور وسياج البيت الأبيض وحرم الجامعات - على الإبادة في غزة، بينما هو مثل روبوت يتعثر بمشقّة وراء نتنياهو الذي واصل جرّه منذ الأسبوع الثالث للحرب على غزة حتى أوصله لصبيحة الانتخابات دون أن يمنحه شيئاً، التبرير الباهت لخروج الجيش المحرج من أفغانستان ومشاهد العتاد المتروك والناس الذين تخلى عنهم وهم يركضون خلف طائرات الهيركوليز على المدرجات، والدعم المطلق غير المحسوب لزيلينسكي من دون الحصول على نتائج، وأخيراً المحاولات العبثية المملة لوسطائه ومبعوثيه ووزير خارجيته لوقف الحرب على لبنان ووقف عداد القتلى اللبنانيين الذي كان يتصاعد، ولا يزال، إلى إصراره الذي يثير الحزن على البقاء في السباق الرئاسي حتى اللحظة التي جرى فيها وضعه جانباً... في ما يشبه نهاية شكسبيرية لممثل دؤوب وبلا موهبة، قضى جو بايدن حياته في تقديم تجارب الأداء، وحين صعد إلى الخشبة كان قد تقدّم في العمر وخسر الكثير من طلاقة الممثل وثقته وتوازن مشيته. لقد أخذت منه "تجارب الأداء" التي استغرقت طويلاً حظوظه كاملة ولم يعد صالحاً للدور الذي هيأ نفسه له. هكذا تخلى عنه الممثلون والمنتج ومخرج العمل ومشاهدو القاعة، وتركه المؤلف لمصيره. في خطاب النصر في احتفال "عودة ترامب" الاستعراضية، كنت وصفتها هنا في مقالة سابقة، بـ"عودة هيثكليف" في "مرتفعات وذرنغ"، عودة غير متوقعة لشخص يصعب توقعه، عودة ذكية ووعود غير ملزمة ولكنها مناسبة. إشارات تذهب إلى مقاصدها بقوة، مثل الصهر اللبناني والحفيد العربي، ووصول نائب الرئيس المرشح إلى الكنيسة المارونية صحبة زوجته صبيحة الانتخابات، الصورة مع الأئمة وممثلي الجالية العربية المسلمة في ميشيغن، الالتفاف على المدن والتحدث إلى الأرياف من عمال ومزارعين وساخطين على وضعهم الاقتصادي، أفارقة ولاتينيين وآسيويين، امتدت يد من الاحتفال لتطفئ الضوء الباهت الأخير عن غرفة بايدن وبقي خيط من الضوء يمتد من سريره عبر الباب الموارب نحو الدرجات المؤدية للقبو، يمكن مغادرة حفل الفوز وخطبة النصر، وهتافات الأنصار، والمكالمة المريرة لهاريس وخطابها الحزين في "هاورد"، والذهاب نحو الخاسر الأكبر الذي تفاقمت خسارته، كما هو متوقع، عندما سُمعت أصوات ممتلئة بالمرارة من بعض زملائه ورفاقه في حملة هاريس تحمله مسؤولية الخسارة، أو جانباً كبيراً منها. لتتمكن من رؤية مشهد "النصر" ونشوة المنتصر، عليك أن ترى مشهد "الهزيمة" ومرارة المهزوم. هزيمة مزدوجة بدأت عندما أبعد عن السباق واكتملت اكتمالاً مثالياً عندما عاقبه الشعب الأميركي، كل شريحة لأسبابها، وألقوا نائبته ومرشحته خارج المسرح، رغم أنها متأخرة حاولت أن تبتعد عن سياساته وأفكاره وشُبهة أنها تشكل امتداداً له، كان ذلك نوعاً من التخلي وإطفاء ضوء آخر. ليس هناك جمهور مسلم بولائه التقليدي، الناس يتغيرون حسب مصالحهم، والأجيال تتلاحق وكل جيل جديد بحاجة إلى خطاب جديد، تلك ثغرة لم تُغلق في حملة الديموقراطيين. هناك هزائم متعددة، ليست الخسارات متشابهة، ولكن في مشهد جو بايدن الذي خسر مرتين، في استعارة عنوان رواية جورج أمادو "كانكان العوام الذي مات مرتين"، يبدو مشهداً مختلفاً عن مشهد "أنطونيوس" في قصيدة كفافيس الشهيرة "الإله يخذل أنطونيو"، المبنية على بطولة الخسارة وشجاعة الخاسر: "...فلتصغ، تلك هي بهجتك الأخيرة، إلى الأصوات، آلات الفرقة السرية المدهشة وقل دائماً، وداعاً للإسكندرية التي تفقدها".