علي بن محمد الرباعي
ربما، هناك أمهاتٌ يُشبهن أُمّي، إلا أنّ أُمّي لا تُشبهُ أحداً، ولعلّها لا تُشبهُ إلا نفسها، وربما كان خلقُها من طينة مُقدّسة، أو أنّ جيناتها تمتد إلى سلالة بشريّة لا تعرفُ إلا الحُبّ والطُهر والعفّة، ولستُ هنا ابناً معجباً بأمّه، بل عاشق مُتيّم بصوتها وابتسامتها ورائحة ملابسها ومشيتها ووقوفها وطبخها وقهوتها وسردها للحكايات والقصائد، وكائنٌ مُفرطٌ بتفاؤله بدعائها.
وعيت أمي، (زاد الله مثواها نوراً)، على الحياة، وهي يتيمة الأب، فيما تزوّجت أمها في قرية بعيدة عن قريتنا، وكانت في كفالة عمنا سعيد (عليه رحمة الله)، الذي زوّجها لأخيه من أمه، الذي هو أبي (عليه رحمة الله)، ولم تنعم بحياة مُرفّهة، ولم تحظَ بزوج رومانسي بامتداد أيام العشرة، فوالدي (غفر الله له) يتيم الأب، وكان هو أبو نفسه، ولذا عانت وقاست وكانت كلما خنقتها العبرة رفعت كفيها إلى السماء، وقالت: (اللهم إنّي أمتك التي لا أشركتُ بك ولا عصيت، ولا سرقتُ ولا زنيت، ولا عليك تعدّيت)، وتعجز عن تكملة الدعاء، لأنها مهما كان وقع الظلم والجور عليها، تخاف على ظالمها من دعائها فتُمسك.
مرّت بنا نحو أربعة أعوام عصيّبة، كون أمي (أسعدها الله برضوانه)، طريحة الفراش، وكنتُ أُضمرُ في نفسي، أنها ربما تخشى علينا من فاجعة الرحيل المفاجئ، ولذلك دربتنا وإخوتي وأخواتي وأهلي على الفراق ليكون على مراحل، ولطالما نظرتُ في عينيها، فقرأتُ في الأحداق رسائل تطمين، تقول (لن أرحل الآن).
وبما أنّ نفسيّة الأمهات شديدة الحساسية، أظنها خشيت أن نملّها (حاشا لله) فاختارت الرفيق الأعلى، مساء السبت الماضي، صباح الأحد، ولأنّ أُمي شديدة الحياء، تريّثت حتى انتهى وقت زيارتنا لها بعد العشاء، وغادرنا إلى البيت، لتبدأ استعداداتها، على انفراد لإطلاق روحها، من الجسد الضيّق إلى رحاب السعة الآمنة عند ربها.
لم تكد تمضي الليلة الأولى على رحيل أمي (غفر الله لها، وأكرم نزلها)، إلا وتناسلت خيوط شريط ذكريات، تقوم معي وتقعد، وتصحو وتنام، في كل ركن من المنزل أسمع صوتها، وأشم زكيّ رائحتها، وأرى بياض روحها، وهي تطوف بأرجاء الغرف والساحة والوادي والطريق.
كانت أمّي عندما تعلم بموت أحد، أو تطرق سمعها سيرة هادم اللذات، تنهمر دموعها، وتقول «الموت حق، عليه سلام الله، ولكن الفراق صعيب»، ولعل تمسكنا بها وتمسكها بنا، أنزل رحمة الله لتتيح لها ولنا فرصة رد بعض الجميل، علماً بأن ادعاء الفضل مع مثل أمّي عقوق.
طبتِ يا أمّي، وأنتِ بيننا، وطبتِ في جوار رب كريم، وهنيئاً لتربةٍ حوت جسدك الممهور بختم الابتلاء، وهنيئاً لكِ والملائكة تفتح لروحك الطاهرة أبواب السماء، وكلي ثقة أن مشوارك في الحياة الحافل بكل ما يمكن أن يتصوّر الخيال وما لا يُتصوّر، جدير بالتوثيق، وروايته لبناتنا وأبنائنا وأحفادنا وحفيداتنا، لتمثّل الصبر والرضا والطمأنينة والصدق مع الله.
في الموت فلسفة عصيّة على الفهم، ليست من فلسفات الوجودية ولا الواقعية ولا المثالية، ولا تلك التي يمكن وصفها بمنطقيّة ولا نسبيّة، بل تدخل في الألغاز وربما المعجزات، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا (إنّا لله وإنا إليه راجعون).
من الوفاء إزجاء الشكر لأمير منطقة الباحة الأمير الدكتور حسام بن سعود بن عبدالعزيز؛ لسؤاله وتوجيهه الكريم بالرعاية الخاصة لوالدتي (غفر الله لها)، والشكر موصول لسعادة وكيل إمارة منطقة الباحة الدكتور عبدالمنعم بن ياسين الشهري؛ لمتابعته للحالة الصحية لأمي (عليها رحمة الله)، والشكر للتجمع الصحي في الباحة، ممثلاً بمستشفى الملك فهد، ولفرع وزارة الصحة، وللهلال الأحمر السعودي في المنطقة الذي كان خير معين لنا على نقل أمي (رفع الله درجاتها في عليين)، من منزلنا للمستشفى، والشكر للنقل الإسعافي في مستشفى الملك فهد، ولكل منسوبي المستشفى من أطباء وإداريين وأخصائيين وفنيين وممرضين وممرضات، وشكراً للأوفياء الذين زاروا، والذين سألوا ودعوا، ولكل الذين شاركونا وجع الرحيل الثقيل الدم.
كنتُ إذا سمعتُ أُمّي (رزقها الله منازل الشهداء) تقول لأحد إخوتي: يا حبيبي، أقول وأنا يا أمي؟ فتقول: (أنت صديقي ورفيقي)، ولعل هذه العبارة تكون شفيعي يوم الفزع الأكبر.
تلويحة.. اتصل بي الصديق خالد الفاضلي مُعزّياً، وقال يا علي: (الأمهاتُ لا يمتن وإنما يتوارين في ناحية من القلب). فيما بعث الصديق مجاهد عبدالمتعالي رسالة يقول فيها: (الآن كبرتَ يا عليّ). وداعاً يا نبض القلب، ودم الوريد وشهد الروح وضمير الوعي.
التعليقات