أحمد برقاوي

درجت العادة البشرية منح الأحكام الصادقة والصحيحة صفة الأحكام العقلية، ووصف الخاطئة بأنها لا عقلية، وقس على ذلك أحكام القيم والتميز بين العقلي منها واللا عقلي. وهكذا منحت صفة العقل لكل ما هو إيجابي واللا عقل لكل ما هو سلبي. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه مركزية العقل. وليس هذا فحسب، بل إن مبادئ التفكير صارت هي ذاتها مبادئ العقل، كمبدأ السببية ومبدأ الغائية ومبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع.

وقد قال أبو العلاء المعري يوماً:

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء

فإذا أطعته جلب الرحمة

عند المسير والإرساء

إذا كان الأمر كذلك فما هو مصدر اللا عقلي، هل هناك جهاز لدينا يصدر عنه كل ما يجانب الصواب؟ أم إن العقل نفسه الذي يصدر عنهم الصواب يصدر عنه ما يناقض الصواب، ما هو مصدر الأيديولوجيات المتعصبة مثلاً؟

دعونا نقول إن كل ما يصدر عن البشر من كتابة وكلام وقول ومعنى ورأي وسلوك وعواطف متنوعة إنما يصدر عن العقل. بل وكل ما تصوره الإنسان من أساطير وخرافات صادرة عن عقل في مرحلة الطفولة الحضارية. العقل لسان التصديق والتكذيب واليقين والشك واللا أدرية.

وما التميز بين العقل والقلب إنما هو تميز بين عقل يصدر أحكاماً منطقية وواقعية، وعقل يصدر أحكامه العاطفية والذوقية.

إذاً عندما نميز في الأحكام إنما نميز بين حالات ظهور العقل. والعقل، والحال هذه، طبيعة تتثقف وتتعلم وتحزن وتفرح وتبدع وتكون فاعلة عبر علاقتها بالعالم. وكل ما هو خير وشرير إنما يصدر عن العقل، والأدنى إلى الصواب القول إن العقل يظهر على أنحاء مختلفة، وليس من الصواب في شيء اعتقاد جماعة بأنها جماعة عقلية وتنفي العقل عن جماعة أخرى، والعنصرية تقوم على هذا أصلاً.

هل هناك تمايز في العقل بين بني البشر؟ وإن يكن فلماذا؟ وما هو أصل التمايز هذا؟

العقل خزان فاعل، فالتمايز بين العقول تمايز فيما تخزنه العقول. وهذا الخزان فيه معرفة عن طريق الخبرة، والتربية، والتعلم، والمعرفة المستفادة من التعليم، والتقاليد والعادات، وكل هذا لا ينفي عامل الوراثة والموهبة وإن اللغة هي العقل. فالتفكير بأي أمر مرتبط بمخزون العقل. وقد دللت الحياة الواقعية على أنماط عدة من ظهور العقل.

فهناك العقل الطليق، والعقل الطليق لا يكف عن التكون، وتظل أبوابه ونوافذه مفتوحة لاستقبال الجديد من المعرفة والثقافة والسؤال الدائم، فالعقل الطليق عقل سأل دون توقف، وتبقى عيونه منتبهة لكل ما يدهش. والعقل الطليق يتحول من مصنوع إلى صانع لأنه فاعل في إنتاج المعرفة والأدب، والفن، والعلم، والفكر.

وهذا يكون بفضل الحقل الذي نما فيه وترعرع.

وهناك العقل المغلق، العقل المغلق تكوّن مرة في عالم ضيق من الثقافة والمعارف، ويغلق ذاته خوفاً من أي ضوء أو ريح، ويسمل عينيه كي لا يرى الجديد، إنه العقل المتحجر.

العقل المتحجر هو الذي يرى عالمه المعيش أحسن العوالم الممكنة، ويقوم بحراسته حاملاً كل أدوات القتل والنفي. العقل المتحجر هو عدو الممكن المطلق. فيما العقل الطليق هو العقل الذي لا تكف دماء الممكن عن الجريان في أنحائه. بعد أن يكون المنطق قد أرهق العقل في تأمله بالوجود الكلي ومحاولات الإجابة عن السؤال المثقل بما ولماذا، يحلق شعراً بأجنحة الحدس في غيبة لا تعرف مدتها ويعود مزهواً بأعلى درجات الجمال.

ولأن الأمر هكذا، فإن الاهتمام بالعقل تربية وثقافة ومعرفة وقيماً لهو استراتيجية ضرورية في كل مراحل التعليم وفي كل وسائل الإعلام والتثقيف وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد فوضى وسائل التواصل.