لا أخفي يقيني أن مصر لولا دور المؤسسة العسكرية فيها كانت ستلتحق بفوضى المنطقة، أي كانت بكل اختصار ستشهد انهياراً مماثلاً لما شهدته سوريا والعراق واليمن وليبيا. وحده دور الجيش المصري، مدعوماً من ثقافة سلمية عميقة في المجتمع المصري، حمى مصر من الانهيار الذي كان رذاذه بدأ يطالها من الغرب (ليبيا) والشرق (العراق وسوريا وغزة) والجنوب (اليمن والسودان). والآن مع سقوط النظام البعثي الأسدي نرجو أن تكون إعادة إعمار سوريا شاملة وناجحة في ظلّ نظام حريات تعددي مع التأكيد على خصوصية مصر التي تنتج نموذجها الخاص دائماً في رفض نظام الإسلام السياسي، خصوصاً الجهادي، السني أو الشيعي. أنطلق من صدور رواية جديدة في عام 2024 نحو هذا التأمل في التجربة بل التجارب العربية السياسية والأمنية المعاصرة. إنها رواية لكاتب مصري موهوب وتكرّست سمعته ككاتب موهوب هو علاء الأسواني. يجب قراءة الرواية للدخول إلى معضلة هل مجتمعاتنا ناضجة للديموقراطية أم لا ولو عبر نصّ (رواية الأسواني) يذهب في السرد الدرامي في اتجاه معاكس. فهي تتحدث عن مرحلة "منتهية" وتأخذنا إلى التعاطف مع شخصيات تلك المرحلة من إيطالية وفرنسية ويونانية ومصرية وغيرها كـ"ضحايا" وتتركنا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين نتساءل كمراقبين سياسيين هل هذه المعضلة قابلة للحلّ وأمامنا الآن التجربة السورية؟ هل تستطيع الرواية أن تنافس البحث السياسي أو المذكرات في الإضاءة على مرحلة في بلدٍ ما؟ الجواب من دون تردد: نعم، إذا كان العمل جاداً ومبنياً على وقائع حتى لو ذهبت مخيلة الروائي بكل حرية في إعادة تصوير الوقائع الشخصية أو تعديل الوقائع العامة، لكن كما في الروايات الكبرى، يجب أن تكون الأحداث قائمة على توثيق جاد يقترب من البحث السوسيولوجي وحتى الطبي كما في رواية الطاعون لألبير كامو. هكذا أثارت عندي رواية الأسواني أسئلة من زاوية بل من ضفة غير متوقعة، إذ يقترن إعجابي بها مع خلاصة تَحسُّر تاريخي تثيره كجرح مفتوح. أعجبني في تقديم مجلة "لوبوان" التي اختارت رواية علاء الأسواني الجديدة "الأشجار تمشي في الإسكندرية"، كأحد أفضل الكتب الصادرة عام 1924 في فرنسا، قولها في تقديم الرواية المكتوبة باللغة العربية والمترجمة إلى الفرنسية إننا "نتمسك بشخصيات هذه الرواية العظيمة كي لا نضطرّ إلى مغادرتها". في روايته "عمارة يعقوبيان" يضع الأسواني الأمة المصرية في بناية واحدة تتحول طوابقها إلى طبقات المجتمع المصري القديمة والجديدة عارضاً تحولاتها وعلاقاتها، بينما في روايته الجديدة "الأشجار تمشي في الإسكندرية" يضع المدينة الكوزموبوليتية في "مطعم" واحد تتفاعل منه وفيه شخصيات المدينة وكيف يتحوّل ضغط النظام السياسي الجديد إلى قوة تفكيك وصراع مع هذه الشخصيات الغنية والمتنوعة. لن أدخل في تفاصيل الرواية المشوِّقة وإنما سأقاربها كمصدر سوسيولوجي وسياسي، قد تكون تلك المرحلة عولجت بعض وجوهها سابقاً في الرواية المصرية ولكن علاء الأسواني ينجح في جعلها جذابة وذات خصوصية. عالجت ثلاثية نجيب محفوظ تحولات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في مصر. كذلك في السينما تطرق يوسف شاهين في "اسكندرية ليه" بشكل محدد إلى أجواء الإسكندرية ومصائرها ثم كان عهد الرئيس أنور السادات في السبعينيات الذي شهد موجة "انتقامية" من عهد الرئيس جمال عبد الناصر تجلّت في العديد من الروايات والأفلام والأعمال المسرحية. بهذا المعنى قد لا تكون رواية الأسواني متفرِّدة، ولكن قوتها تكمن في هذا التفكيك الدرامي لزوال حقبة مزدهرة من تاريخ مدينة هي الاسكندرية عبر شخصيات نساء ورجال كانوا جزءاً معبِّراً وأصيلاً منها في علاقاتهم ومشاعرهم وصداقاتهم وغرامياتهم كما في طموحاتهم ومشاريعهم وسلوكياتهم الاجتماعية والثقافية. بهذا المعنى وعلى الخصوصية الاسكندرانية لرواية الأسواني، فإنها أيضاً رواية كل مدينة تفقد حداثتها الكوزموبوليتية. سينتصر النظام على المطعم في النتيجة ويهاجر معظم "الأجانب" الذين كانوا يحوكون نسيجه. في النهاية أعتقد أننا مع علاء الأسواني أمام قامة روائية مصرية كبيرة، نجيب محفوظ القرن الحادي والعشرين، قامة تتشكّل بتراكم نوعي لا نعرف ماذا يخبّئ للمستقبل، وربما الكاتب نفسه لا يعرف الآن ماذا يخبّئ؟