محمد الرميحي

غادر دنيانا الفانية الصديق المرحوم محمد جابر الأنصاري، أحد كبار مثقفي مملكة البحرين، ومستشار جلالة الملك حمد بن عيسى للشؤون الثقافية والعلمية، وبهذا الفقد تفقد الثقافة العربية المعاصرة واحداً من أهم المستنيرين العرب.

الحق أن الأنصاري، رحمه الله، هو من طلائع المفكرين العرب المستنيرين، وكان يبحث عن نموذج فكري يفسر تحولات السياسة والاجتماع في المجتمع العربي الحديث.

كان يسعى إلى تفسير عقلي وعلمي لما يحدث حولنا من تحولات.

ولفهم أعمال الأنصاري علينا أن نفهم التعريف الحديث للعلم الاجتماعي.

كنا إلى زمن قريب نعتقد أن العلم هو إما العلم الفقهي، أو العلوم البحتة والتطبيقية التي كانت تسمىHard science، أما العلوم الاجتماعية فهي العلوم السهلة soft science.

واليوم حسب الأكاديمية الفرنسية التي تبناها المرحوم في أعماله، فإن العلم الصعب هو العلم الاجتماعي، أما العلم البحت أو التطبيقي فهو السهل نسبياً، لأن مدخلاته يمكن التحكم فيها.

أما العلوم الاجتماعية فلها مدخلات عديدة، لا يمكن التحكم فيها، لذلك كل تجربة سياسية اجتماعية، تدور في فضاء ثقافي معين، تختلف عن تجربة أخرى في فضاء آخر؛ من هنا نتبين صعوبة ما واجهه محمد الأنصاري في البحث الاجتماعي السياسي العربي.

في المفاهيم تحدث الأنصاري بشيء من الإعجاب عن نظرية ابن خلدون في تداول سلطة الدولة، بين أهل المدر وأهل الوبر، وعنصر الرفاه الذي ينتج الدعة، ومن ثم ضعف العصبية في الدولة، والتي تجمع أهل السلطة، فتأتي عصبية جديدة من أهل الوبر لتطيح بالدولة وتبني دولة أخرى جديدة، إلا أن إضافة الأنصاري أنه يرى أن نظرية ابن خلدون لم تعد قائمة اليوم في كثير من مطلقاتها، فقد تحولت العصبية بمعناها الاجتماعي والسلوكي إلى مجموعة جديدة من الناس، هم «العسكر» الذين قلبوا الدولة العربية في الكثير من الجغرافيا العربية من مدنية إلى عسكرية.

وتحدث الأنصاري في المفاهيم عن الفرق بين العربي والأعرابي، ولاحظ أن المفهوم الأخير تكرر عشر مرات في القرآن الكريم، تسع منها على شكل ذم، ليس بسبب إلا أن لديهم نقصاً في فهم أسباب الحضارة التي يفهمونها على عكس الدولة المدنية، فوعيهم يتوقف عند ما دون الدولة، وهذا أخذ من الأنصاري تفكيراً عميقاً لدراسة علاقة الدين بالدولة في التاريخ العربي، ولدى قوى عربية معاصرة، وهي حيرة سادت بين مفكرين عرب معاصرين، حيث اختلط بناء الدولة الحديثة بالمقولات الدينية، وتم كما قال: «تسليع الدين سياسياً»، أي جعله سلعة سياسية.

وحاول الأنصاري شرح الفرق بين (اليقين المطلق) في الدين، و(اليقين النسبي والمتحوّل) في السياسة، وطالب بفك الارتباط بين الدين والدولة، أي بين النص الديني والتشريع السياسي، وقد نقل عن عدد من الفقهاء أن التشريع ليس من مقاصد الوحي، كان للضرورة في تنظيم المجتمع وقتها، وأن غرض الإسلام هو عقيدة التوحيد، لذلك لم ينص على شكل محدد للدولة، وقد اختلف الفقهاء على عدد آيات التشريع في القرآن، ابن عربي قال إنها 630 آية، والغزالي قال إنها 500 آية، حتى وصلنا إلى من قال إنها 5 آيات فقط، فالتشريع إذاً محكوم بمواصفات تاريخية تتلازم مع أحوال البشر، وتتغير تباعاً بتغير نمط حياتهم.

لقد أوضح الأنصاري أن إشكالية المصطلح هي حجر عثرة في الممارسة السياسية، وقد فجرت تلك الإشكالية عنده مناقشات مستفيضة في أكثر من عمل من أعماله، حيث قرر أن علينا أن نهتم بالوزن النسبي للزمن، لأن البعض يستشهد بأحداث وأقوال تمت في زمن مختلف وفي ظروف اجتماعية مختلفة، إلا أن كثيرين في الفضاء الثقافي العربي يستندون في مرجعياتهم إلى حقب سابقة من دون التفكير في اختلاف الزمان.

يرى الأنصاري، رحمه الله، أن ما نشاهده من صدام فئوي محتدم ودموي اليوم هو نتيجة القرار السياسي، ومن مفرزات الفهم الخاطئ، وينتهي بضرورة إقامة الدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها المواطنون تحت قانون عادل نابع من الناس يحقق الخير للجميع.

يمثل الأنصاري خط العقلانية العربية في التفكير، إلا أنه كما قال في الأقلية، ويتم تجاوزه بسرعة من خلال (الخط التراثي غير العقلاني) بسبب ضعف في منظومة التعليم، التي أورثت (ضعف مناعة معرفية) شبه مزمنة.

تلك بعض شذرات من فكر الأنصاري، الذي بوفاته خسر الفكر العربي أحد منظريه الكبار، وسوف يبقى هذا الفكر نبراساً لأجيال قادمة، رحمه الله، والعزاء لأسرته ومحبيه.