من يتابع حركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ ان دخل المكتب البيضاوي لا بد انه أصيب بدوار جراء الكثافة المخيفة التي اتسمت بها قراراته ومواقفه إزاء كل المواضيع في الداخل او الخارج على حد سواء. اللافت ان ترامب الذي يتحدث بكل الملفات والمواضيع الساخنة بشكل عفوي و"على السخن" كما يقال، قد قوّض إلى حد كبير مهمة المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض. فهو يتمتع دائما بأسبقية على المتحدثة الحسناء كارولين ليفيت التي بالكاد تستطيع اللحاق بالرئيس و بمواقفه التي يوزعها صبحا و مساء. و الحال ان دونالد ترامب هو رئيس الدولة الأقوى في العالم، و بالتالي فإن أي موقف يصدر عنه يصبح بالنسبة للعام خبرا رئيسيا يهم الجهة المعنية به، كما يهم الإعلام بكافة صنوفه، لاسيما الاعلام الجديد أي "السوشال ميديا" الذي يمكن القول انه تفوق على الإعلام التقليدي من صحافة مكتوبة او مرئية ومسموعة تحديدا خلال الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية التي فاز بها ترامب. في مطلق الأحوال يبدو ان ترامب قرر ان يخرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من فخ الحرب اجفي أوكرانيا الذي علق فيه قبل ثلاث سنوات عندما أطلق "عملية عسكرية خاصة" لقلب الحكم في كييف، السيطرة على البلاد. ومعروف ان العملية لم تسر كما كان مخططا لها، فعلقت القوات الروسية في رمال أوكرانيا المتحركة، و بدلا من ان تكون الحرب نزهة كما كان الرئيس الروسي يتوقع، طالت و تعقدت وانتهت بخسارة الطرفين مئات آلاف الجنود، وانفاق مئات مليارات الدولارات. هنا يأتي ترامب لينقذ روسيا من الرمال المتحركة، وان يكن على حساب أوكرانيا حليفة اميركا اقله من حيث المبدأ. فيعلن قبل بدء أي مقاوضات حول وقف إطلاق النار انه يتفهم ان تحتفظ روسيا بمساحات من الدونباس التي سبق ان احتلتها في حرب أوكرانيا الأولى عام ٢٠١٤ ، و زادت عليها مساحات إضافية في الحرب الثانية بعد عام ٢٠٢٢. و من هنا تبدو المحادثات التاريخية اتي استضافتها المملكة العربية السعودية في الرياض بين وزيري خارجية القوتين ماركو روبيو و سيرغي لافروف و كأنها تمهد لختم الحرب بتنازلات إقليمية من جانب واحد لكن مع فارق مهم لم يتم تسليط الأضواء عليه وهو ان واشنطن التي تخرج موسكو من وحول حرب أوكرانيا على حساب حليفتها سمحت لنفسها ان تدخل في استثمار مناجم المعادن النادرة في مناطق شرق اوكارانيا بالتشارك مع روسيا. و قد مكان لافتا ألاّ ينتظر الرئيس ترامب إلى موافقة نظيره الروسي المسبقة على مشروع دخوله على خط الاستثمار الاستراتيجي لمناجم المعادن النادرة في شرقي أوكرانيا التي ستمنح لروسيا بدعم أميركي. هذا القرار الأميركي لا يجد من يعارضه. فطبقا حرب أوكرانيا فلاديمير بوتين و فولوديمير زيلنسكي مرهقان جراء حرب خسرت فيها أوراسيا حوالي مليون جندي و أوكرانيا ثمانمئة الف. الفاتورة باهظة حتى على بلد مثل روسيا التي ستخرج من الحرب ضعيفة و مستضعفة بعدما فشلت في ربح حرب مع جار متواضع مقارنة بها، و بعد ان طردت من مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة على شواطئ الساحل السوري، و ظهرات مقارنة بالولايات المتحدة "قوة إقليمية" تمام كما سبق او وصفها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قبل عقد من الزمن.

صحيح ان الرئيس ترامب يظهر نفسه كمن يتحرك في كل اتجاه من دون تخطيط، لكنه يملك ثمن حركته فيما الرئيس بوتين يجد ان هوامشه تتقلص عاما بعد عام، إلى درجة انه احتاج ان ينتظر بفارغ الصبر فوز ترامب المتعالي على أوروبا و أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو" المتخلفين عن المساهمة التي توازي اقتصاداتهم في ميزانية "الناتو". احتاج ان يفوز ترامب لكي يبدأ برفع قبضة إدارة الرئيس الديموقراطي السابق جو بايدن عن رقبة روسيا في أوكرانيا، و ذلك بعدما جرى إغراقه في حرب لا نهاية لها في أوكرانيا. وبعد ثلاث سنوات صعبة و مكلفة للغاية يمكن أقول ان كل النظرية التوسعية الإمبريالية الروسية وصلت إلى حافة الانهيار على قاعدة اكتشاف موسكو انها لا تملك " عدة" طموحاتها الإقليمية، و بطبيعة الحال انها لا تملك قدرات توازي محم طموحاتها و أحلامها بعودة مجد غابر. فقد سقطت الأمبراطورية القيصرية سنة ١٩١٧ د و ثم سقطت وإمبراطورية الاتحاد السوفيياتي سنة ١٩٩١، و مذّاك ما استطاع "القيصر" الجديد فلاديمير بوتين ان يُحيي حلما ظل يراوده منذ ان احكم قبضته على السلطة في الكرملين سنة ١٩٩٩ . خلاصة القول ان سلام ترامب قد لا يكون كما يبدو بالضرورة في صالح بوتين!