علي عبيد الهاملي
في لحظة ما من حياتنا، نحمل أحلاماً تلمع في عيوننا كنجوم بعيدة، نراها قريبة، ونحسب أن الوصول إليها مسألة وقت فقط. نرسمها بألوان الشباب، ونحملها على أكتافنا كالحقائب المدرسية. ولكن ما إن نمضي في دروب الحياة، حتى تبدأ هذه الأحلام بالتآكل، شيئاً فشيئاً، لا لأنها كانت واهيةً، بل لأن الواقع كان أقسى مما تخيلنا.
يتسلل الواقع إلينا أولاً في هيئة مفاجآت بسيطة؛ وظيفة لم تكن كما حلمنا، صديق تغيّر، باب أُغلق أمامنا دون سبب واضح، ثم يشتد ويتجسد في مشاهد أكبر؛ فشل في مشروع، خيبة أمل في علاقة، مرض يطرق بابنا دون استئذان. عندها، نبدأ في التساؤل: أين ذهبت تلك الأحلام التي كانت تسكن أرواحنا؟ ولماذا لم تكن الحياة على مقاس خيالنا؟
كثيرون منا لا يفقدون أحلامهم دفعة واحدة. إنها لا تتحطم بصوت عال، بل تتفتت في صمت، كأثر لخطى بعيدة على رمل شاطئ تمحوه الموجة تلو الأخرى. يتغير شكلها، ثم تتلاشى تدريجياً، حتى نكاد نشك أننا حلمنا يوماً.
هل كانت المشكلة في الحلم أم في الواقع؟ أم في المسافة بين الاثنين؟
في الواقع، ليست كل الأحلام قابلة للتحقيق، وليس كل واقع يستحق أن ندفن فيه خيالنا. أحياناً، نُحمّل أحلامنا أكثر مما تحتمل، نبالغ في رسمها، ننسى أن للواقع قوانينه، وأن الطريق إلى القمة ليس مرصوفاً بالنيات الطيبة وحدها.
ومع ذلك، فليس من العدل أن نُحمّل الواقع وحده مسؤولية خيبتنا. ففي أحيان كثيرة، نحن من نخذل أحلامنا؛ بالتردد، بالخوف، بالتأجيل، وبالاستسلام السريع. نغلق الأبواب قبل أن نطرقها، ونطوي الصفحات قبل أن نكتب فيها سطراً واحداً.
وفي لحظات كهذه، حيث يبدو كل شيء ضبابياً، نتوق إلى من يعيد ترتيب فوضى أرواحنا، من يذكرنا بأن الحلم لا يموت، بأنه قد يتبدل، يتحوّر، ينتظر نسخته الجديدة ليتحقق. فالأحلام كالماء، إن لم تجد مجراها، غيّرت اتجاهها، لكنها لا تتوقف.
لطالما كانت الأحلام وقوداً للروح، لكننا لم نكن يوماً ننظر إليها بعين حالمة فقط، بل كنا نرى الواقع كما هو، ونكتب عنه كما هو، لا لننعى الأحلام، بل لنعيد توجيه البوصلة نحو الأحلام الممكنة، القابلة للنمو في أرض الواقع.
نعم، بعض الأحلام تتحطم، ولكن من بين شظايا الحلم المكسور، يولد أحياناً حلمٌ أكثر واقعية، أكثر توهجاً. أحياناً، لا تكون الحياة خيانة لأحلامنا، بل درساً في فن اختيار الحلم المناسب في الوقت المناسب. فالألم ليس نهاية، بل بداية مختلفة.
ليست الخسارة أن تسقط أحلامنا، بل أن نسقط معها دون أن ننهض. ليست الهزيمة أن يتحطم الحلم، بل أن نكفّ عن الحلم تماماً. ففي النهاية، ما يميّزنا كبشر هو قدرتنا على الحلم، ثم النهوض، ثم المحاولة من جديد. الحلم ليس امتيازاً للنائمين، بل طاقة للمستيقظين.
الحياة لا تمنحنا دائماً ما نريد، لكنها تمنحنا دوماً فرصة لفهم أنفسنا أكثر، لصقل ذواتنا، ولخلق معنى جديد من بين ركام الخيبات. وهي، وإن بدت في بعض محطاتها موحشة، إلا أنها لا تخلو من فسحة للفرح، ومن ومضةِ أمل تشبه حلماً صغيراً يكبر في صمت.
قبل أيام وقع في يدي العدد الأول من مجلة «الرسالة» التي كان يصدرها نادي طلبة الإمارات في القاهرة. تاريخ صدور العدد هو شهر مايو 1977م. بهذا يكون قد مضى على صدوره ما يقارب 48 عاماً. من بين مقالات العدد وجدت مقالاً كتبته وأنا في السنة الثانية من دراستي الجامعية. كان عنوان المقال: «الشباب بين آمال الحاضر وواقع الغد».
في المقال طرحتُ أسئلة عدة. قلت إننا إذا كنا اليوم نجلس على كرسي الناقد المتفرج الذي لا يفعل سوى الفرجة والانتقاد، فغداً تتغير كراسينا، وننتقل إلى تلك المواقع التي ننظر إليها اليوم نظرة الاتهام وخيبة الأمل، فماذا سنفعل إذا جمعتنا مع كل المظاهر التي نرفضها اليوم مجالاتُ عمل واحدة؟ وختمت: (أنا لا أتحدى أحداً.. وحاشا لي أن أتحدى نفسي وأنا أدرى بها.. ولكنني أحاول أن أوقظ الضمائر إذا ما أتيح لها أن تقرأ هذا الكلام بعد سنين قليلة، علّها تتذكر ماضيَ الأيام لتقارنه بواقع الحال).
ها أنا أعود اليوم لقراءة ما كتبت قبل ما يقرب من خمسة عقود، فماذا عساي أقول؟
أقول إن الحلم لا يخون. نحن الذين أحياناً نخذله.
التعليقات