لا أعرف حقًا هل تختار القصائدُ زمنَها، أم أن الزمن هو من يفتح لها بابًا سريًا لتتخلّق فيه، كثيرٌ من النصوص، بل حتى الأبيات المفردة، تبدو كأنها تنتقي لحظتها المخصوصة كي تُولد، ثم تمضي في الوجود بقدرٍ من الدهشة يجعل شاعرها نفسه في ورطةٍ مع التكرار؛ كأن الرؤيا تكتمل فجأةً بينما لا يزال الشاعر يبحث عن مدخل جديد إليها، أو لعلّ القصيدة تسبق لحظتها، فتتجاوز زمن كتابتها، لتستقرّ في الزمن الذي خُلقت له أصلًا.. وهنا يبدأ السؤال الأعمق: ماذا يصنع الشاعر حين يجد نفسه داخل حالة شعرية تكرّر ذاتها، على مستوى البواعث والتجلّيات والدوافع؟ هل يكفي أن نسمي هذا الأمر نبوءةً مبكرة لقصيدةٍ تريد أن تولد مرةً أخرى، أم أن الأمر أبسط من ذلك، فحالات الإنسان تتشابه، لتتشابه معها رغبة التعبير، فيعود الصوت بالتالي إلى منبعه الأول، لا ليكرر ذاته بل ليبحث في العمق عن ومضةٍ لم يصغْها بعد!

على مستوى التلقي، يبدو الأمر طبيعيًا، فالشعر، كما نعرفه وكما نألفه، مادةٌ صالحة لكل الأزمنة؛ نافذةٌ يستعيد بها الإنسان أمسه، ويستشرف بها غده، ويعبر من خلالها صحراء وجوده بأقل قدرٍ من العطش، فالشعر لم يكن يوماً غير خليطٍ من ذكرى وحلم، من أثرٍ لا ينتهي بانتهاء الحياة أو الحالات، فهو ينشد الخلود، دائماً، ومن ثمّ فإن تكرار القصيدة -في عين القارئ- ليس تكرارًا بقدر ما هو تأكيدٌ على أثرٍ يستعاد دائماً دون أن يفقد صلاحيته.. لكنّ الشاعر نفسه لا يعترف بهذه البساطة، فحين تتكرر الحالة الشعرية عليه، وتتشابه الأسباب والدوافع، يشعر بأن شيئًا ما يقف بينه وبين اكتمال رؤيا لا يعرف صورتها لكنه يعرف غيابها، وهنا تحديدًا تبدأ الورطة: ورطة الإفصاح عن الجوهر حين يكون الجوهر نفسه متحوّلًا، وورطة الهروب من التكرار حين يكون التكرار هو الدليل على صدق التجربة.

والشعراء هم أولئك الذين يرحلون إلى الجوهر الإنساني ويعودون منه ببخور أرواحهم، -أو على الأقل ينشدون ذلك– فهم ليسوا مجرّد كتّاب نصوص، بل مسافرون دائماً في تيه الغيب الإنساني، يلتقطون مفرداته الخفية ويتركونها لنا على هيئة قصائد، ومن خلال تلك القصائد نرى يومهم الذي لم نعهده، ونسمع أمسنا الذي لم نعشه، ونلمح استشرافهم لغدٍ لم نصل إليه بعد!

وهم، من حيث يدركون أو لا يدركون ربما، يصبحون جزءًا من أرشيف الوجود؛ يكتبون أثرهم على صفحة الزمن كي يعيد الزمن كتابته من خلالهم، ولعلّ أجمل ما في الشعر أنه يحاول الإمساك بما لا يُمسَك: بالمعنى حين ينفلت، بالإنسان حين يتجاوز حدوده، ولهذا لا يبدو التكرار عند الشعراء مجرد إعادة، بل سعيًا آخر نحو جوهرٍ تتبدّل صوره ولا يستقرّ.

ولطالما اعتقدتُ أن كل شاعر أيًّا كان، مات وهو يبحث عن قصيدته الأجمل؛ القصيدة التي ظلّ يلاحقها ولم يمنحه القدر لحظة اكتمالها، لكنّ المفارقة العجيبة أن تلك القصيدة ذاتها قد وصلت إلينا بعده، مكتملةً في زمنٍ لم يدركه، ومصاغةً على نحوٍ لم يتخيله!

وهكذا، لا تموت القصائد حين يموت الشعراء، بل تبدأ زمنها الحقيقي، ولعلّ هذا هو السرّ الأكبر في فتنة الشعر فالقصائد ليست لشعرائها لكنهم وسطاء في رحلتها نحو الزمن الذي تختاره بنفسها.