تقرأ في دفاترك القديمة، مراجعات وتدوينات أنت وضعتها قبل عقدين أو أكثر من السنين، تجوال في عالم آخر وزمان مختلف يقوم على ضبط ماتحقق في أيامك ويجردها في حسابات الوجدان والعمل وإنتزاع مايسمى بالأحلام، كما جرت العادة أن تأخذك الوحدة مع النفس في النصف الثاني من الشهر الأخير لتقابل ما تحقق وماتأجل في عامك الراحل نحو تقاويم رحلة العمر، جردة حساب سنوي لتنظيم دورك للزمن المقبل .

 كانت الأيام لاتشابه بعضها، المواسم تتنوع بحقول وطعم ثمارها، وفي الأفق أمل وأنتظار لأجمل الأيام التي لم تأت بعد ..!

لكل منا " كريسميس " خاص به ، وموعد مع الحفل... ولحظة تسرقك نحو أغنية تعبأ ليلُك في بضياء التوهج والنشوة .

أحساس الخوف يشابه لحظة العبادة حين يمازج يقينك وجود طريقين وليس طريقا ً واحدا ً، يقينيات راسخة كانت تتداول وتثبت أحلامك قبل أن تظهر تضاريس الإغتراب والغربة في جغرافية الوطن التي دبت اليها الحروب وصفقات وقذارات السياسة وأبناء القرى المتعفنين بتكلسات التاريخ والدين وترسبات الوحوش البشرية.

ضاع الزمان الأحلام " الشواطئ" والجرف والمنحنى، ضاع الطريق والطفولة والدفاتر .. ماعاد للقصيدة معنى ولاللوطن إشتهاء ً، أصبحت المنافي ولم تزل موعدا ً للحفاظ على الأدنى في كل شيء .

أنتهى الوطن الى ملامح ضبابية في ذاكرة تتماوج فيها أعاصير الرعب وصور الجنون والترحال والبحث عن سماء تستقبل استغفارك المتأخر ..! 

 كيف نسينا معنى الخسارة ..؟

ولماذا تركنا الوطن وحيدا ً ..؟

 مازلت أذكر تلك الصباحات في بغداد، وبعض الوجوه والأصوات بسحر يشبه رذاذ المطر ..، تعال أريدك قريبا ولاترحل، هكذا كان ينادي .. وكنت أضحك..! كان المطر موعدا ً لتجميد ذاكرة السرد، وإنبعاث نواعير الشعر وانتصار الطفولة والرقص البهيج مع تلاوين قوس قزح .

× × ×

أجمل قوة يتباهى بها المرء ان يتوازن حواره مع الزمان، وليس أسيرا ً لقوانينه وخيالاته، ذلك مبعث القوة التي تملكناها بعناد يشابه الفولاذ، وحين نكتب على صفحات الأيام الأخيرة من السنة ماتوهج بالذاكرة من أحداث، تأخذك غبطة التحايل والإنتصار على الأيام، بل تشعر بمسرة تبعث على نشوة لايتحسسها سوى الدراويش والراسخون بالسحر والخيال والصدق أيضا ً.

شعورك بالقوة ان تحرز البطولة بهدوء وسرية، وأن تقف بتحدي للزمن وسلطاته العبودية..!

 تلك حكاية وألف حكاية تجعلك طاقة متحررة من الخوف، تزاحم الغرور، وتكتسب صلاحية الشجاعة في كتابة أسطورتك الشخصية .

ثمة صفحة لم تزل صامدة من عام مضى، من زمن الشجاعة ، محت السنوات تاريخه على نحو دقيق، لكنه لايتعدى عام 1977، وحين تعيد قراءة ماكتبت تشعر أنك تقيأت تاريخك في بالوعة زمن رديء، وثمة رغبة جامحة للبكاء...!

صار البكاء بعض مسرتنا في العراق البعيد .. القريب .!

الحبر الذي أساله الزمان على تلك الأوراق تجعل الأحداث تتداخل مع بعضها ومن الصعب قراءتها، كما تداخل الزمن العراقي بغموض مرعب، مابين الحروب والحصار والقمع والموت والإعتقال والتهجير والأنفال وحركة الأهوار والمقاومة الصامتة في الداخل العراقي، وأنتهاء ً بجنون الطائفية وخرابها المطلق إسلامويا ً.

انتهى زمن الشجاعة، جاء زمن الفساد، وهذه الكوابيس المتجولة في غيبوبة الوطن الأخيرة أحالتك الى مايشبه رمل الطريق، صار يكتبنا في رصيف الطرق لأقدام المعتوهين والقتلة، فلا ذكريات تجنيها أيتها الذاكرة والأيام تتقاذفك مابين الحرب والحصار والحرب الثانية القومية والثالثة الطائفية والرابعة الأهلية، ولاشيء ..لاشيء تكتبه الآن فالحروب تتشابه، والخراب له صورة واحدة .

[email protected]