لا يخفى للمتابع ملاحظة أن بعض الناس المحيطين به لديهم رغبات دائمة أو متفطعة في تحوير ليس المواضيع والكلمات ووظائف أعضاء الجسد فقط، كما هو الحال لدى محرّفي أقوال الناس، أو الذين يغيرون آلية عمل أعضاء جسد الإنسان كالشاذين جنسياً،إنما لدى بعضهم هوس متواصل لتغيير وظائف الأدوات التي وجدت أصلاً لخدمة الإنسان ولكنهم استخدموها ضده، وعلى سيرة الإرهاب الذي نحن بصدده فلا شك بأن الكثير منا قرأ قصة المصباح السحري وعلاء الدين، إذ وحسب المرويات فغالباً ما كانت وظيفة المارد الذي يخرج حسب الطلب والحاجة من المصباح ويمثل كالعبدِ أمام علاء الدين كانت لتحقيق الغايات الخيرة لعلاء الدين، أو لوقايته من المخاطر، أو تخليصه من المواقف الحرجة التي يقع فيها علاء الدين، وقلما استخدم مالك المصباح مارده لأهداف عدوانية شريرة، ولكن يبدو أن الدول والحكومات غيروا من مهام المارد الخيرة وحصروا استخدامِ مارد المصباح في الأعمال الإجرامية.
كما درجت العادة في بلادنا حيال مَن يحاول أن يكذب كذبة كبيرة ويفشل فيها فشلاً ذريعاً أن يقال له: (هات غيرها) بمعنى أنك لم تفلح بصياغة هذه الكذبة، لذلك عليك البحث عن كذبة، أو تلفيقة أخرى تكون أكثر إقناعاً فيها، وهو على ما يبدو ما فشلت فيه بامتياز جهة تدعى (الحركة الشعبية السورية) التي أعلنت مسؤوليتها عن اغتيال السفير الروسي في انقرة أندريه كارلوف في الهجوم الذي تعرض له السفير يوم الاثنين الفائت من قبل ضابط تركي مهمته حماية المسؤولين الكبار، وقد قالت الحركة المذكورة في بيان لها إننا "نعلن مسؤوليتنا عن استهداف السفير الروسي في تركيا ونهنئ شعبنا بنجاح العملية التي نفذها واحدٌ من رجالنا الأحرار يرافقه بطل من أشقائنا الأتراك"، الغريب في غباء هذه الجماعة أن بيانها جاء بعد أن رأى العالم كله العملية وفاعلهابالصوت والصورة، وذلك بعد أن سارعت جهات مسؤولة في تركيا إلى اتهام جماعة فتحالله كولن، وحقيقة لو كان القاتل ملتزماً الصمت أثناء قيامه بالعملية، ولو لم تنشر مقاطع من صوته في كل أرجاء العالم، لقالت نفس تلك الجهات التي اتهمت جماعة غولن بأن من قاموا بالعملية هم من حزب العمال الكردستاني، ولكن مَن أبعد هذه المرة الاتهام عن الكردستاني هي فقط كلمة الله أكبر، فلو لم يقلها القاتل ولو لم يذكر سوريا وما يحدث فيها خلال كلامه بُعيد عمليته لأضيفت العملية الى رصيد حزب العمال الكردستاني بدون منازع.
عموماً فمن يا ترى سيلتفت إلى ذلك البيان الفقير بالأدلة والقرائن بينما صرح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بعد الحادثة بأن مرت الطن طاشن الذي يبلغ من العمر 22 عاما، هو أحد عناصر الشرطة التركية، وأنه مولود في 24 يونيو/حزيران عام 1994 في مدينة سوكه في ولاية آيدن المحافظة غربي تركيا، ودرس في كلية الشرطة في مدينة أزمير الساحلية في شمال تركيا، ويبدو أن بيان الجماعة المسمية نفسها (الحركة الشعبية السورية) جاء لغرضين: فإما لزيادة التشويش وتضليل الإعلام والمواطنين معاً، أو جاء كبديل احتياطي، وذلك في حال إذا ما فشل تثبيت التهمة على جماعة كولن فيكون حينها هذا البديل أحد المساهمين بضياع القضيةوتشتيت الرأي العام وهو المطلوب، وتكون عندئذ تلك الجهة جاهزة لتبني العملية إن كانت حسنة أم شنيعة طالما أنها وجدت للقيام بهكذا أدوار ولهكذا مناسبات.
أما فيما يتعلق بجهة أخرى تدّعي قرابتها لحزب العمال الكردستاني، فبعيداً عن منطق الإهانة فحقيقة حتى الحمار الذي هو حمار بالأصل، إذا ما رفس أحدهم على الدرب أو فوق البيادر، فلا يُعتقد بأنه سيتفاخر برفسته أمام معشر البهائم، إلَّا أن ثمة تنظيم يدعى (صقور حرية كردستان) فما من قبيحةٍ تحدث في تركيا إلّا وتفاخروا بأنهم فاعلوها، وكالعادة فقد تبنى هؤلاء المجهولون تفجيرات استنبول الأخيرة كما تبنوا من قبل تفجيرات إرهابية مماثلة، والغريب أن حزب الشعوب الديمقراطية يساري الفكر والمنشأ وليس من نهجة الحض على التفخيخ أو التفجير كوسائل لتحقيق الأهداف، بل وما من تفجير يحدث ويزهق فيه أرواح الأبرياء حتى يدينه الحزب المذكور قبل غيره أو تزامناً مع الأحزاب الأخرى في تركيا.
والملفت في قصة تأسيس هذه الجماعة الهلامية أي جماعة (صقور حرية كردستان) أنه وحسب الموسوعة الحرة وباقي المواقع ممن كتبوا عن الجهة، بأن التنظيم تأسس عام 1993 أي قبل اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان بـ: ست سنوات باعتبار أن أوجلان اعتقل عام 1999، بينما يقول عنها الباحث في الشأن التركي الكردي علي ناجي، إن "المنظمة المعروفة باختصار“TAK” تأسست بعد اعتقال عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، ومارست عملها بشكل فعلي بعد 29 تموز 2004، بينما العمليات العسكرية المحسوبة على التنظيم فهي بعد 2010، منها تفجير حافلة تقل جنودا في إسطنبول بتاريخ 22 يونيو/حزيران 2010، تفجير في ميدان تقسيم المركزي في إسطنبول يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2010، تفجير في ميدان كيزيلاي المركزي في أنقرة يوم 20 سبتمبر/أيلول 2011، تفجير في مطار صبيحة كوكشين في إسطنبول يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 2015، تفجير حافلة تقل عسكريين بميدان كيزيلاي المركزي بأنقرة يوم 17 شباط/فبراير 2016، وآخر تفجير كان في أنقرة منذ فترة قصيرة، ووفق علي ناجي أن "جماعة صقور كردستان تعتبر تنظيم سري، لا تعلن حتى عن زعيمها أو قيادتها او أعضاؤها، وتكتفي بالاعلان عن الانتحاريين بعد قيامهم بالعمليات الانتحارية"، ولكن وفق قراءتي المتواضعة للمشهد السياسي الكردي في تركيا ووفق الطبيعة الاجتماعية لكرد تركيا، فأرى بأن كرد تركيا غير قادرين بتاتاً على إنشاء هكذا منظمة سرية قادرة على ضرب المواقع الموجعة للدولة، لأنه وبكل بساطة لو كانوا قادرين على إدارة هكذا منظمات لغيروا المعادلة السياسية والعسكرية لصالحهم منذ عشرات السنين وليس اليوم فحسب، كما أن هذه الجماعة لم تنفذ إلى الآن أية عملية عسكرية كانت لصالح الكرد، علماً أن من يمتلك ذلك الذكاء الاستخباراتي ويمتلك كل تلك السرية يعني بالضرورة أن يكونوراءه جماعة ذكية جداً، ومن يتصف بالذكاء لا يأتي بعملياتٍ إلا إذا كانت مفيدة لمن تنتمي إليهم، وليس العكس كما هو حال كل عمليات ذلك التنظيم الوهمي، وإذا قلنا بأنه تنظيم يديره أناسٌ جُهال وأغبياء، وأنهم لا يعرفون كيف يفيدون من يمثلونهم بتلك العمليات،فهذا أيضاً لا يصح لأنهم لو كانوا جُهال وأغبياء لتم التعرف عليهم خلال أيام معدودات وليس أن يطول عمر تنظيمهم سنوات من غير أن تُعرف أية جهة عنهم شيئاً، وطالما اعتبر التنظيم بأنه مرتبط بحزب العمال الكردستاني أو أنه تابع له بطريقة ما، وحسب بعض التعريفات المنسوبة للتنظيم بأنه يسعى إلى إقامة وطن عرقي للأكراد جنوب شرقي تركيا، والسؤال فكيف يسعى لإقامة وطني قومي للأكراد هذا التنظيم الوهمي بينما حزب العمال الكردستاني نفسه وكذلك حزب الشعوب الديمقراطية قد تخلوا عن فكرة الدولة القومية برمتها؟ كما أن القيادي بحزب العمال الكردستاني جميل باييق سبق له أن صرح لوسائل الإعلام بأن المنظمة منفصلة عن الحزب، ولا روابط أو صلات بينهما، بينما المحلل السياسي المتخصص بالشأن الكردي روشان شاكير الذي عمل في قناة ( N ) كمقدم برامج في السنوات السابقة وانفصل عنها ثم صار أحد دعائم قناة ( ستار التركية ) التي قامت بعرض مسلسل حريم السلطان وانشهر من خلال الاشكاليات التي أحدثها ذلك المسلسل،فيصر على ارتباط "صقور كردستان الحرة" بـ "العمال الكردستاني" وأنها تقوم بالمهام التي يحجم الحزب عن القيام بها، أما ما الذي يدعم اصراره وماهي القرائن لديه فلم يقدمها الصحفي ولا مرة؟ لذا يبدو أن ما يقوله المحلل السالف الذكر عن ذلك الموضوع هو مجرد رغبة شخصية منه ورأي شخصي غير مدعم بأية من الأدلة والبراهين، لذا لا يؤخذ بكل آرائه حيال ذلك الموضوع.
والأغرب بشأن هذه المنظمات أنها بخلاف مصباح علاء الدين ومارده، مع أنها تستفيد من نفس آليته في الظهور والاختفاء، ولكنها بخلاف وظيفة ذلك المارد فهي وجدت للشرور ولتتبني الأعمال الشنيعة، مع أنها كحال المارد تختفي فور تحقيق الرغبات العدوانية للجهات التي تستخدمها، ولا تترك أثراً خلفها، ولا هي لها حيز جغرافي معين، مع أن أقوى المنظمات الإرهابية في العالم مثل تنظيم القاعدة التي تفرع عنها الدواعش والنصرة فهم يكشفونعن قيادييهم، ولهم مواقع سيطرة معروفة في عدة أماكن جغرافية في العالم، كما أن أخطر التنظيمات العالمية لها ناطقون وقادة يتحدثون باسمها، أو يصدرون الأوامر والفتاوي باسمها، بينما من خصصناهم بهذه المادة وخاصة ما يسمى بتنظيم صقور كردستان فهو أشبه بالكائن الخرافي الذي له سيط، وثمة حكايا تحكى عنه، ووقائع تنسب إليه، ولكن من دون أن يكون له وجود فعلي ملموس على وجه الأرض، وحسب المعطيات المتعلقة بالجماعة فيبدو بأنها ليست أكثر من جهة وهمية أو تنظيم وظيفي يتبع لجهة استخباراتية ما من دول المنطقة، ولا علاقة للكرد به لا من قريب ولا من بعيد، فهو خلق فقط ليتبنى الشناعات التي تحدث هنا وهناك على امتداد خارطة تركيا، وأن مشروعه الرئيس وما يطلب منه، هو أن كل عمل إرهابي مضر بالكرد قبل ضرره بالدولة التركية فعلى التنظيم الإرهابي المشار إليه أن يسارع لتبنيه برحابة صدر ويكون وجه المقابحة لكل قتلٍ أو خرابٍ يطال تركيا .
التعليقات