هناك جدل لافت في فرنسا حول نشر صور الاعتداءات الارهابية، وقد الجدل احتدم لأيام في الفترة الأخيرة بين السلطات المحلية في مدينة نيس وشرطة مكافحة الارهاب الفرنسية، حيث رفضت السلطات طلباً من الشرطة بإزالة واتلاف صور مسجلة للهجوم الذي تم بشاحنة ضخمة، وأسفر عن مقتل 84 شخصاً وإصابة العشرات. وقال مكتب المدعي العام الفرنسي في العاصمة باريس إن الطلب بإزالة تلك الصور يأتي بسبب المخاوف من التأثيرات المحتملة والتي لا يمكن التحكم فيها، قد تنتج عن الانتشار واسع النطاق لتلك الصور، لكن مسؤولين محليين في مدينة نيس، ردوا على ذلك الطلب بوثيقة قانونية تشير إلى أن تلك الصور يمكن أن تحتوي على أدلة على ذلك الهجوم. وذكرت صحيفة "لوفيجارو" إن الشرطة الفرنسية تريد إزالة تلك الصور من الإنترنت لحماية خصوصية عائلات ضحايا الهجوم، وللحفاظ على شعورهم فيما يتعلق برؤية تلك المشاهد التي قضى فيها ذووهم، وتقول أيضاً إن إزالتها ستحول دون استخدامها من طرف الشبكات الجهادية لأغراض الدعاية لأنشطتها.
تابعت هذا الجدل بدقة كونه مؤشر حيوي مهم على مدى تعقد الظاهرة الارهابية وتشابك تأثيراتها وتداخل أوراقها، ولقد أدركت من خلال هذا الجدل اللافت منطقية وجهتي نظر طرفيه، فالسلطات الفرنسية تبدو على حق في رفض طلب السلطات الأمنية بإزالة وإتلاف صور مسجلة للهجوم الارهابي، ولديها حجج مقنعة بشأن أهمية الصور كأحد وثائق الاتهام وتحديد المسؤوليات القانونية والجنائية في الهجوم، فيما تبدو شرطة مكافحة الارهاب بدورها على حق، لاسيما في ما يتعلق بتوفير دعاية مجانية لأنشطة مكافحة الارهاب.
ولاشك أن أحد أهم أهداف تنظيمات الارهاب يكمن في نشر الترويع والذعر والخوف في مناطق شتى من العالم، وهو الأمر الذي يتحقق بقوة من خلال نشر صور الاعتداءات الارهابية على أوسع نطاق من جانب وسائل الاعلام الرسمية والخاصة في دول مختلفة. بينما تحتاج السلطات الحكومية المختصة لصور الاعتداءات كوثيقة لكسب تعاطف ودعم الرأي العام لخططها وتحركاتها في مواجهة الارهاب، لاسيما أن بعض هذه التحركات قد يتماس قانونياً وإجرائياً مع هوامش الحريات المتاحة لدى الشعوب، الأمر الذي يستلزم تهيئة الجمهور سعياً لتوافر وعي جمعي بخطورة الأوضاع والتهديدات الأمنية، ومن ثم تقّبل بعض القيود على الحريات الفردية من دون تذمر.
والموضوعية تقتضي القول أن مثل هذا الجدل يدور بأشكال مختلفة في معظم الدول التي تعرضت في السنوات الأخيرة لخطر الارهاب وتهديداته وجرائمه، وهو ـ بشكل أو بآخر ـ انعكاس لصراع "الصورة" وقوتها التأثيرية منذ صعود نفوذ الاعلام الجديد وتطبيقاته التقنية المختلفة منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
هو إذن صراع أو تنافس شرس على كسب العقول والقلوب، سواء بين الحكومات وشعوبها، أو بين تنظيمات الارهاب وأتباعها والمتعاطفين معها، فالدول والحكومات تسعى إلى إظهار بشاعة الارهاب، وهذا حقها تماماً كي لا تتهم من جانب البعض بانتهاك الحريات أو الافتئات على حقوق الانسان وغير ذلك، كما توفر لها صور الاعتداءات الارهابية تعاطفاً ودعماً شعبياً يحصنها في مواجهة أي انتقادات. أما تنظيمات الارهاب فتراهن بقوة على عامل الصورة وتأثيرها الطاغي في كسب أرضيات تعاطف جديدة تهيىء المجال لتنشيط خطط الحشد والتجنيد والاستقطاب، فضلاً عن اثبات الذات في عيون المؤيدين، لاسيما في فترات الاحساس بالهزيمة والاندحار وتلقي ضربات أمنية قوية تهدد بزعزعة ثقة عناصر التنظيمات الارهابية في مقدرة هذه التنظيمات على البقاء والاستمرار.
ومن ثم يصعب على أي مراقب الانتصار لأي من وجهتي النظر السابقتين، بين السلطات المحليى وشرطة مكافحة الارهاب الفرنسية، فكلاهما لديه مبررات لها وجاهتها وأسانيدها المنطقية، ولكني أرى ـ بشكل عام ـ أن أجواء الاعلام تعد بمنزلة "جرعات الهواء" بالنسبة لتنظيمات الارهاب، فهذه التنظيمات تقتات وتنتعش في ظل تغطيات واهتمام إعلامي مكثف، حتى لو كانت هي الطرف الخاسر في المعارك والمواجهات، حيث تستغل هذه التنظيمات "ثغرة" بالغة الخطورة تتمثل في فجوة الثقة القائمة في كثير من الأحيان بين بعض الشعوب والاعلام الرسمي، حيث تميل بعض الشعوب أو شرائح كبيرة منها إلى التشكيك في صدقية الاعلام والبيانات والتصريحات الرسمية بشأن أي موضوعات، وهي فجوة متجذرة ولا تجري معالجات جادة للتخلص منها أو الحد من استمراريتها.&
هذه الفجوة لا توجد بطبيعة الحال في معظم الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، بل تتمركز في مناطق ودول أخرى، ولكن الثابت في جميع الحالات أن الإعلام هو جزء أساسي من الصراع مع التطرف والارهاب، وهذه الأداة المهمة ذات تأثيرات مزدوجة، أو هي سلاح ذي حدين، فهي فعالة ومهمة ومؤثرة شريطة أن تنطلق من صدقية واحترافية ومهنية عالية، وهي بالمقابل كارثية وتعمل لمصلحة الأعداء في حال انطلقت من مربع الهواية والمغامرة والتجريب وغياب الصدقية واعتمدت التفكير الانفعالي والفهم المحدود للظواهر الأمنية والمجتمعية والدينية والثقافية والسياسية.
ما أريد قوله أن الاعلام الرسمي يمكن أن يكون داعماً غير مباشر لتنظيمات الارهاب بدرجات تفوق إعلام هذه التنظيمات ذاته، وتزداد مستويات الكارثية والخسائر المحتملة في حال تلاقت مهنية الاعلام الارهابي واحترافيته وحداثته وتطوره التقني مع فشل واخفاقات الاعلام الرسمي، هنا تتجسد الكارثية ويصبح الحديث عن التصدي للفكر الارهابي نوع من العبثية وهدر الوقت والجهد.
&