عنوان هذه المقالة، هو عنوان الكتاب الذي قام بتأليفه البروفيسور "جون ميرشيمر"، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الامريكية، وأحد أبرز الباحثين الأمريكيين في السياسة الخارجية. العنوان الأصلي هو: “Why Leaders Lie – The Truth about Lying and International Politics”.
يقال ان السياسي لا يكذب، ولكنه "يقتصد في قول الحقيقة"، ولأن السياسة هي فن الممكن فإنها أكثر عرضة للكذب كسلوك انساني موجود بكثرة في الممارسة السياسية العادية.
في مقالة الأسبوع الماضي، تطرقنا لموضوع "لماذا تكذب الدول بعضها على البعض" وأنواع الكذب، مدعوما بأمثلة حدثت على ارض الواقع. وفي هذه المقالة، سوف نعرض الوجه الآخر من كذب القادة، وهو "الكذب على شعوبهم".
من واقع الممارسة، يتخذ كذب القادة على شعوبهم أساليب أربعة، هي: إثارة الذعر، التغطيات الاستراتيجية، الاساطير القومية، والاكاذيب الليبرالية.
إثارة الذعر: يستخدم هذا الأسلوب عندما يرى قادة الدولة خطرا محدقا بهم، ولا يتمكنون من اقناع الشعب برؤية الذئب الماثل امام ابوابهم، ومن دون اللجوء الى حملات الخديعة. ولم يكن الهدف من ذلك هو خداع رجل الشارع البسيط فقط، بل رجال الطبقة المتعلمة المستنيرة، بمن فيهم الخبراء في الشؤون الخارجية الذين ربما يميلون الى تقليل أهمية التهديد بأساليب خطيرة. ومن الممكن أيضا توجيه حملات اثارة الرعب الى موظفي الدولة الذين – ربما – يميلون أيضا الى تلطيف الامر وتهوين الخطر، على عكس ما يرى قادة الدولة.
من الأمثلة على "اثارة الذعر"، هو حين زعم مهندسو الحرب على العراق بأن الولايات المتحدة تملك الدليل القاطع وعن يقين، على ان "صدام حسين" يمتلك أسلحة دمار شامل، في حين ان ذلك لم يكن صحيحا. وقد اكد ذلك كل من "دونالد رامسفيلد" والجنرال "تومي فرانكس" خلال لقائمها الرئيس "بوش الابن" ليعطياه تقرير عن الوضع في 6 سبتمبر 2002م.
التغطيات الاستراتيجية: هناك نوعان من التغطية الاستراتيجية، فالقادة قد يكذبون عندما تفشل سياسة ما فشلا ذريعا، ويكون دافعهم الأساسي الى الكذب هو حماية مصلحة البلاد، وليس حماية الافراد الذين كانوا وراء هذا الفشل، وان جاءت حماية أولئك المسؤولين كنتيجة غير مقصودة. ويكذب القادة أيضا لإخفاءاستراتيجية جيدة ولكنها مثيرة للجدل، خشية ان تواجه برفض جماهيري حقيقي يمنع تبنيها.
من الأمثلة على "التغطيات الاستراتيجية"، هو جهود الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" المضنية لحسم ازمة "الصواريخ الكوبية" بطريقة سلمية. لكي ينهي الازمة قبل ان تتصاعد الى حرب بين القوتين العظميين، وافق "كنيدي" على طلب ان تسحب الولايات المتحدة منظومة صواريخها النووية "جوبيتر" من تركيا، مقابل سحب السوفييت صواريخهم أيضا من كوبا. وكان "كنيدي" يعلم تماما ان هذا التنازل قد لا يقبله الرأي العام الأمريكي، وكذلك اليمين السياسي، ويمكن ان يؤثر سلبا على علاقة الولايات المتحدة بحلفائها في حلف الناتو، وبالأخص تركيا. وذلك اشترط على السوفييت الا يتحدثوا عن هذا الاتفاق علنا، وإلا فإنه سينكره ويتراجع عنه نهائيا.
الأساطير القومية: مع ظهور القومية الوطنية في القرنين الماضيين، سعت عرقيات ومجموعة قوميات وطنية عديدة حول العالم نحو تأسيس دولها، التي عرفت بـ "الدول القومية". وفي اثناء عملية البناء هذه، حاولت كل مجموعة ان تخلق اساطيرها الخاصة المقدسة عن ماضيها، تصورها بشكل أفضل، وتصور خصومها من المجموعات القومية الأخرى بصورة سلبية. تتحمل النخبة التي تسيطر على مسارات التفكير في دولة ما مسؤولية كبيرة عن خلق هذه الأساطير، وهم يفعلون ذلك لسببين أساسيين. (1) تساعد هذه القصص الكاذبة في تعضيد التضامن الجماعي. (2) وكذلك تساعد في خلق شعور قوي بالوطنية، وهو عنصر أساس في بناء الدولة والمحافظة عليها. هذه القصص الخيالية تضفي على المجموعة العرقية او القومية الإحساس بالانتماء الى مشروع نبيل، الذي لا يستدعي الفخر به فحسب، بل يستحق تحمل المصاعب لأجله، والقتال والموت في سبيله.
وأحسن مثال لهذه الظاهرة هو إسرائيل والجالية اليهودية في أمريكا. فلم يكن للصهاينة ان يؤسسوا دولة يهودية في فلسطين من دون إبادة عرقية واسعة لسكانها العرب الموجودون هناك منذ قرون. وقد أدرك قادة الصهاينة هذه النقطة على نطاق واسع قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. وجاءت الفرصة المواتية لطرد الفلسطينيين في أوائل العام 1948م، عندما نشبت الحرب بين الفلسطينيين والصهاينة بعد قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين الى دولتين. أجلىالصهاينة عرقيا نحو سبعمائة ألف فلسطيني من ارضهم التي أصبحت لاحقا إسرائيل، ورفضوا بإصرار السماح لهم بالعودة الى منازلهم حتى بعد ان توقفت الحرب. هذه القصة (الجريمة) تضع إسرائيل في دور المعتدي، مما يجعل من الصعب على هذه الدولة الغاصبة ان تكسب الأصدقاء، وتخلق اثرا في العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة.
الأكاذيب الليبرالية: تشكلت عبر التاريخ منظومة من الأعراف السائدة التي تبين اشكال السلوك المقبول وغير المقبول بين الدول، سواء في حالة الحرب او السلم. وترتبط هذه الأعراف ارتباطا وثيقا بنظرية "الحرب العادلة" والأيدلوجية الليبرالية بصورة عامة، واغلبها صار مصنفا ضمن القانون الدولي. ويقر معظم رجالات الدولة بمعظم هذه الأعراف الليبرالية، ويقبلون ويؤكدون التزامهم بسيادة القانون. وعلى الرغم من ذلك يرى القادة أحيانا ان مصلحة بلادهم تضطرهم الى ما يخالف تلك الأعراف. ويتضمن هذا السلوك غزو الدول الأخرى من اجل مكاسب استراتيجية وشن حروب وقائية، إضافة الى شن حروب بأسلوب وحشي، ينتهك نظرية الحرب العادلة. كما ان الدول الديمقراطية هي الأكثر احتمالا في ان تستهدف المواطنين المدنيين من الدول غير الديمقراطية.
ومن الأمثلة على "الأكاذيب الليبرالية"، هو ما فعلته الولايات المتحدة في اليابان خلال الأشهر الخمسة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، حيث قتلت عمدا نحو 900 الف مواطن مدني ياباني، لا لخوفها من الهزيمة في الحرب، بل لأنها ارادت ان تكسب الحرب من دون غزو الأراضي اليابانية. ولا يقتصر هذا السلوك الوحشي للدول على زمن الحرب فقط، فالولايات المتحدة مارست دورا أساسيا في دفع الأمم المتحدة الى فرض عقوبات اقتصادية على العراق من أغسطس 1990م حتى مايو 2003م. وقد أدى ذلك الحظر الاقتصادي والتجاري الى كارثة إنسانية، راح ضحيتها قرابة 500 الف مدني عراقي وفق تقديرات منظمة اليونيسيف.
لم يتطرق مؤلف الكتاب الى أكاذيب حكام دول العالم الثالث (الذي من ضمنه دول العالم العربي) على شعوبهم، لعلمه المسبق ان هؤلاء الحكام يعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله في بلدانهم، وان ما يتخذونه من قرارات هي إلهام إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وان من تسول له نفسه انتقادهم فمصيره معروف، إما القتل او السجن او التشرد في اصقاع ارض الله الواسعة.
يخلص مؤلف الكتاب الى حقيقة مؤداها: أن تفشي الكذب في دولة ديمقراطية قد يجعل المواطنين يشعرون بالاغتراب الى درجة فقدان الثقة بحكومتهم الديمقراطية، مما قد يدفعهم الى تأييد شكل من اشكال الحكم التسلطي. فمن الصعب تصور استمرارية الحكم الديمقراطي زمنا طويلا إذا فقد الشعب احترامه لقادته، ورآهم مجرد حفنة من الكذابين، وإذا فقد احترامه لمؤسساته لأنها موغلة في الفساد. وخلاصة القول، فإن الكذب الكثير يسبب اضرارا جسيمة لأي جهاز سياسي.
آخر الكلام: شكرا للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت الشقيقة لترجمته هذا الكتاب القيم الى اللغة العربية، واصداره في شهر ديسمبر 2016م ضمن سلسلة كتب عالم المعرفة (العدد 443).
التعليقات