الفيروس المهلك بدأ يكشر عن أنيابه، ويبدو أن ضحيته القادمة هي الصحافة الألكترونية!
هكذا تبدو الصورة، على الأقل فيما يتعلق بالصحافة الألكترونية الشاملة الناطقة بالعربية، والتي ربما لن تهنأ بفترة شباب وفتوة معافاة بعد أن تنبأ لها الكثيرون من قبل بمستقبل زاهر بالحيوية والعنفوان.
الفيروس يبدو شبيها ببعض فيروسات الانفلونزا ذات القدرة على إعادة تشكيل نفسها، ففي حين أصاب ذلك الفيروس، على حين غرة، الصحافة الورقية، وجعلها تترنح وتبدأ في التخلص من وقودها تحسبا لهبوط اضطراري حتمي وخطير يبدو في الأفق.. أفردت الصحافة الألكترونية عضلاتها، وبدأت سريعا في جذب القارئ، بل وبدت في كامل عافيتها وهي تخترق الحدود، وتمد ألسنتها لحراس البوابات أينما وجدوا، مستفيدة من فضاء متسع بلا نهايات، ومزدانة بسحر (المجانية) حيث يستطيع القارئ أن يتلقى محتواها دون أن يدفع مقابلا ماديا يذكر.
كانت تلك هي الصورة في مبتدئها، ولكن لأن الفيروس قادر على إعادة التشكل بدأ في البحث عن ضحية جديدة لا تملك تحصينا كافيا بحكم يفاعة التجربة، ولم يجد أمامه سوى الصحافة الألكترونية، والتي برزت مشكلاتها الخاصة والمتعلقة بنفقات التمويل والتشغيل والاستمرارية باكرا، وهي نفقات ينوء بها الكاهل مهما كانت صلابته، خصوصا وأن هذه الصحافة ما زالت ككل الإعلام بهيئته الحديثة في مرحلة تشكل مستمرة، وتحوّر متواصل ومرشح للاستمرارية لفترات طويلة قادمة.. قبل الاستقرار على نحو ما.. ليلتقط الأنفاس ثم يواصل العودة لسباق الموت والحياة!
لم تعد أهم أوراق اللعب في يد الصحافة الألكترونية التي تخلصت من تكلفة الورق، ونفقات الطباعة، وكذلك لفظت المقار المتسعة ذات التكاليف الباهظة، والمطابع التي تستنزف الكثير من الموارد.. فضلا عن منغصات التوزيع والمتابعة وحساباتها المرهقة المضنية.. فقد وضح أنها صحافة الألكترون بحاجة للركض المتواصل ليل نهار لتكون في خدمة قارئها المنتشر في كل أصقاع المعمورة.. وهذا يعني أن قواعد التميز أصبحت تستوجب المزيد من الكوادر التحريرية النشطة والمنتشرة في أرجاء الكون، بما يستتبعه ذلك من نفقات تتنوع بتنوع العملات النقدية والأقاليم الجيوسياسية، وسعي لكسب رضا قارئ شديد التنوع يرى في بعض الأخطاء عين الصواب، وغيره يرى في عين الصواب بؤرة الخطأ!
من ناحية أخرى لا يتوهمن أحد أن القاعدة التقنية والفنية التي تنطلق منها الصحافة الألكترونية ليس لها تكلفة مادية، فالكادر الفني الذي يشرف على ظهور المحتوى وحمايته ومتابعته ومعالجة مشكلاته له تكلفته الكبيرة، كما أن التقنية نفسها لها سعرها العالي، إضافة لتكلفة السعات الخاصة بالمحتوى الصوتي أو الصوري بشكليه الفوتوغرافي والمتحرك (الفيديو).
فوق كل ذلك، تبدو هناك مشكلة عصية على الصحافة الألكترونية الشاملة، وهي مشكلة المتلقي الذي يبدو هو أيضا في حالة تشكل، وأن خياراته لم تستقر بعد على شكل مفضل من أشكال التلقي، بعد أن تنازعته وسائط السوشيال ميديا، فصار متجولا بينها.. مع ميل كبير وواضح للواتساب ثم تويتر ثم الفيسبوك وهلمّ جرا.
هكذا يمكن القول إن فيروس الإعلام لم يترك للصحافة الإلكترونية أن تهنأ بتسيد الساحة، بل جعلها تستشعر فداحة فقدانها لعائد المبيع النقدي الذي ظلت تتمتع به صحافة الورق، يضاف لذلك المصيبة الكبرى والتي تبدو قاصمة للظهر، وهي التردد الكبير من المعلن لاقتحام الصحافة الألكترونية رغم الاتساع الواضح لقاعدتها القرائية.. وتلك ظاهرة ربما تعود لعوامل نفسية كالخشية من الجديد والركون للمعتاد، أو لفشل الصحافة الألكترونية في إقناع المعلن بأنها جديرة باهتمامه، وأنها تمتلك من عوامل الجدية والصدقية ما يجعل الرسالة الإعلانية فيها موثوقة المردود ومرتفعة العائد.
وبمثلما شرعت صحافة الورق في التخلص من وقودها تحسبا للهبوط الخطير، ها هي صحافة الألكترون تقلص من طموحاتها.. وترشد في إنفاقها، وتقلل من كوادرها الاحترافية، لتعج مساحاتها بالكتاب الهواة، أو أصحاب الأقلام الباحثين عن مكان بين أهل الاستنارة الباهرة دون امتلاك المقومات المطلوبة، وكل ذلك تفاديا للالتزام المادي المستحق لاصحاب القدرات، لتهتز الاحترافية.. ولينزوي رويدا رويدا أصحاب الفكر المتألق والرؤى الحصيفة والتأثير العميق على المتلقي.
بهذه الخلفية القاتمة ستكابد الصحافة الألكترونية الشاملة من أجل البقاء، وسيكون التحدي أمامها صعبا ما لم تحل مشاكل التمويل الذي يضمن بقاءها وتطورها ومواكبتها لقارئ لا سقف لطموحاته، وتلك مشكلة ربما يكون ثمنها أن تتخلى الصحف الألكترونية عن الكثير من سمات الاستقلالية والشفافية إرضاء لجهات التمويل، أو أن تبتكر سبلا إبداعية توفر بها المال، ليكون لها كادرها المحترف سواء في مجالات الصحافة المختلفة من أخبار وتحقيقات وصور وفيديو وغيرها، أو في مجال كتاب المقالات والأعمدة.. والذين يبدو أنهم قد زهدوا أو كادوا.. بحيث لن يبقى فيهم أحد إذا لم يتوفر لهم العائد المادي المجزي، وسيفضلون الانزواء في صفحاتهم، وتلك مفارقة محزنة ستكون لها آثارها على مستقبل التلقي الواعي، ومستقبل المقالة كأحد أبرز فنون الصحافة بكل تنوعاتها وأجيالها.


[email protected]