بدءاً اقول انني لست مرشدا سياحيا ولا امتلك اية منافع لأقدم دعاية سياحية لزيارة البرازيل هذا البلد الشاسع وعاصمته القديمة الضاجة ريوديجانيرو ولم ار العاصمة الجديدة الثانية برازيليا ولا نيّة لي بزيارتها لا حاضرا ولا مقبلا، وكل ما في الامر انني قرأت قبل بضعة شهور خبرا في صحيفة " الديلي ميل " البريطانية عن قرية نائية تقع جنوب شرق البرازيل في اميركا الجنوبية تسمى " كورديرو " يحتويها سهل منبسط اخضر تحيطه التلال والجبال المكسوّة سفوحها بالاخضرار على مدار السنة ؛ تلك البقعة البعيدة لاتسكنها سوى النساء وعددهن يقارب الستمئة سيدة معظمهن شابات صغيرات لاتتجاوز كبراهن الخمسة وثلاثون عاما، مع بضع سيدات اقتربن من الخمسين عاما، قانعات بعيشهن وحدهن بلا ضجيج الاطفال ومسؤولياتهم وزعيق الزوج وطلباته المتكررة، فهن يزرعن الارض ويسقين الاشجار والنباتات ويمارسن السقي ويبنين المساكن ويوفرن كل متطلبات واحتياجات مستقرهنّ دون مساعدة اي رجل ابدا.
هذه المرة يبدو انهن شعَـرن بالضجر دون وجود الذكور ولو كان ظلاًّ وكما نقول في أمثالنا " ظلّ رجل ولا ظل حائط " فوجّهن ندائهن الى الرجال طلبا للاقتران بهنّ ودعون كل من يرغب بالزواج من احداهن ان يسارع الى المجيء والمساكنة معهم لكن بشرط ان يتفهموا ان هذه القرية مرتعٌ خاص بالنساء ولها قوانينها التي فرضتها القوة الناعمة النسوية وعلى الرجل الذي يرتضي العيش هناك ان يتقبل ماتمليه حليلته عليه دون تذمر او احتجاج.
ويجدر ان اذكر انه سبق ان تزوجت بعض هذه النساء قبل نزوحهن الى " كورديرو " وأنجبن ذرية ولكن هؤلاء الأزواج مع أولادهم وذريتهم سرعان ما يرحلون ويتركون القرية ليعيشوا بمنأى عن زوجاتهم وأمهاتهم ولايلتقون الاّ لماما في الاعياد والمناسبات اذ لايسمح لاي ذكر بلغ الثامنة عشر من عمره ان يستقر في القرية مع النسوة، فالحكم وتدبير امور الحياة وترتيب طبيعة العمل من اختصاص المرأة فقط.
تلك النسوة المنفردات عيشا في " كورديرو " يتحملن حتى الاعمال الشاقة فهن يحرثن الارض ويحضرن البذور وزرعها وفق تنسيق هندسي جميل ويعملن على بناء المساكن والدور وترميمها عند الاقتضاء وينظفن شوارع القرية ويجمعن القمامة ونقلها وعزلها في مكان ناءٍ.
وكل من زار المكان للاستطلاع والسياحة يرى ان اسلوب العمل والتنسيق وهندسة الحقول وطرق العيش وفق لمسات المرأة يوقن ان عملها يفوق قدرات الرجل اضعاف مضاعفة وبالاخص في اللمسات الفنية والابداعية مما يولد غبطة وسعادة تضاهي كثيرا ما يعمله الرجل.
ولا تخفي بعض النسوة منهن من حدوث حالات العبث وسوء الترتيب والفوضى اذا نزح الرجال اليهن كأزواج وأرباب أسر خاصة ان صنف الذكور يتميزون بصلافة الطباع وضيق الصدر وحبّ الزعامة والسيطرة وغالباً ما يميلون الى العنف في حل اي نزاع قد يحدث بين الجيران على العكس من النساء اللائي يقمن على ايجاد الحلول بطرائق انثوية محببة الى النفس وتكون مدعاة لتحقيق السلام والوئام بينهن بعيدا عن الصراعات التي كثيرا ما يلجأ اليها الذكور.
تلك القرية النائية نمت وتطورت منذ اواخر القرن التاسع عشر ؛ بعد ان نزحت اليها السيدة " ماريا سينيورينا " وحدها سنة / 1891 هربا من زوجها الشرس الطباع التي أجبرت على الزواج منه مرغمة تحت ضغط أهلها حيث اتهمها بانها تمارس الدعارة وقام وقتها بتأليب الكنيسة الكاثوليكية ضدّها لمطاردتها وإيقاع العقاب اللازم بها باعتبارها زانية ؛ بعدها لحقت بها بقية النسوة المتهمات بممارسة البغاء حتى قررن عزل انفسهن عن العالم الخارجي وأسسن وطوّرن مقر اقامتهن عاما بعد عام ثمّ اضحت على مرّ الزمن مكانا جميلا ومهوى للسياح ليس في البرازيل وحدها بل بعموم زائري البرازيل من مختلف انحاء العالم.
وفي سنة / 1940 حدث ما لم يكن بالحسبان اذ انقلبت هذه البقعة الوديعة الهانئة من جنان الانوثة الساحرة وهدأة الجمال وسحره الجاذب الى سجن كبير وبيوتها الآمنة تحوّلت الى زنزانات ضيقة أخذت بخناق أهلها من الجنس الناعم البضّ حيث حلّ بها رجل دين غاية في التزمّت والرعونة والعنجهية وفرض قناعاته على الساكنات فأقدم هذا القسٌ الإنجيلي على الزواج من احدى فتيات القرية بعد قصة حب عارمة بين ذئب وذئبة وكانت الفتاة الذئبة الشرسة بعمر 16 سنة وقام هذا القس بحملة إيمانية لارغام النسوة على العبادة، فأسس كنيسة وسط القرية التي توسعت واصبحت مدينة عامرة ومنع السكان من شرب الكحول وتحريم الموسيقى وقص شعر الرأس وتغطيته ومنع استخدام موانع الحمل وعاقب كل من تقوم بتحديد النسل وترتيب وضع الاسرة والدعوة الى انجاب الذرية طالما ان الله هو الرازق وهو من يشبع عباده كما يدّعي واستمرت سطوته / 55 عاما عاشت النساء خلالها في اضطهاد وعبودية ظالمة لاتطاق بسبب سلب حرياتهن.
وفي سنة / 1995 توفي هذا الدكتاتور الاثني وتنفست النسوة الصعداء بعد سنوات الغبراء وقررن بعد تجربة القس المريرة منع اي رجل مهما كانت سطوته الدينية او المدنية ان يعيش بينهن لئلا يتعرضن الى عنت القسّ المقبور وفضّلن العيش وحدهن بلا رفيق من الذكور خوفا من فروض الرجال وقوانينه الجائرة ؛ بعدها عملن على إلغاء كل التشريعات الدينية الجائرة ضد المرأة وبالأخص التي كانت مفروضة من قبل ذلك القس الطاغية ومنعه الغناء والموسيقى والسفور وغيرها من ملامح الجمال التي غالبا ماتتميز به المرأة مع ايمان هؤلاء النسوة بان الله كامن في قلوبهن ومشاعرهن ولو أردن الزواج فلا داعي ان تكون الكنيسة راعية لاقتران اثنين يحبان بعضهما البعض ودون الحاجة الى رجل دين حاضر بينهما وليس هناك من داعٍ ابدا الى تعميد الاطفال فهم يمتلكون كل البراءة الملائكية، ونفوسهم واجسادهم مليئة بالطهر والعفّة والنقاء فمثل هذه القواعد الدينية مصطنعة وموضوعة من قبل الكنيسة ورجالها والقائمين عليها وليست اوامر وتوجيهات ربّانية مفروضة.
الدعوة الاخيرة التي أعلنتها النساء اللائي يعشن في بحبوحتهن في تلك القرية الانثوية الهانئة بالاقتران بالرجال هناك لم استسغها ابدا ولو كان الامر بيدي لقلت لهنّ ناصحا ابقين على وضعكنّ هادئات سعيدات متآلفات بلا جلبة هذا الجنس الخشن العابث المتمرد المائل الى العنف والسطوة والزعامة والنرجسية المفرطة، فما حاجتهن الى كائن ذكوري سيقلب اعاليها سافلها ويحوّل الهناء الى عناء والنعمة الى غمّة وليتهن يبقين وحدهن بلا هذه الرفقة الذكورية التي ستجلب النكد ويغيب السعد والسطوة بدل الارادة الحرة.
انتهت تلك الحكمة اللعينة التي تصرّ ان الرجل مكمّل للمرأة وانه مجلبة للسعادة والمتعة باستثناء مشاركتها في الفراش عندما تقتضي الحاجة الجنسية بأمدها القصير الوقت ؛ اما بقية الاوقات فهو مصدر الازعاج وضياع السكينة وشدة الطغيان والعجرفة والعناد والصلافة والاستعباد لشريكة الحياة، فمن ترضى ان تكون مستعبَدةً طوال حياتها من اجل دقائق او ربما لحظات نشوة في سرير الرجل بعد اوقات طويلة من الإنهاك والمشاق التي لاتنتهي ؟ !
- آخر تحديث :
التعليقات